كازو إيشيجورو: موضوعي الرئيسي هو الذاكرة

Standard

Kazuo-Ishiguro-010

حاوره: أندرسون تيبر

تمتاز كتب المؤلف بريطاني الجنسية وياباني الأصل كازو إيشيجورو بالتنوع في محتواها والإطار الذي توضع فيه – إنطلاقًا من الطبقة العليا في بريطانيا في “بقايا اليوم” وما قبل الحرب العالمية الثانية في الصين برواية “عندما كنا يتامى” إلى الواقع المأساوي المشحونة بالمشاعر في “لا تتخلى عني”. وفي روايته الجديدة “المارد الدفين”، فتدور أحداثها في بريطانيا ما بعد حقبة الملك آرثر، وتتكشف فيها أرض دمرتها الحروب، وسكانها من البريطان المسيحيين والألمان الوثنيين، بجانب الغيلان، والفرسان، وتنين يتنفس ضباب يسبب النسيان. وفي حواره لموقع “جودريدز” يناقش إيشيجورو أزمة الذكريات المشتركة، طريق الحب الطويل والشاق، ومحاولة التوسع لمناطق فنية جديدة.

تحدثت قبلاً أنك اخترت هذه البيئة التاريخية لأنها أشبه بمساحة فارغة من التاريخ يمكنك فيها التعامل مع استفسارات كونية عن الحرب والذاكرة المشتركة. ولكن بعد قراءة بعض الآراء، أتشعر أن النقاد يبالغون في تركيزهم على العوامل الخيالية بدلاً من الأفكار الضمنية بالنص؟

انطباعي هو أن الناس بدأوا يدركون لب ما أردت الحديث عنه، ولكن بشكل أكثر عمومية. ولكن ما لاحظته – وربما هذا شئ لم أتوقعه بالمرة – أنه يبدو وكأنني خطوت داخل مجادلة مستمرة عن دور المجازات الخيالية فيما يمكن أن تطلق عليه “الأدب الجاد”. يذكرني بما حدث مع كتابات الخيال العلمي منذ عدة عقود. منذاك الحين أصبح الخيال العلمي أحد الأشكال السائدة بالأدب ولم يعد أحد يجادل كثيرًا عندما يتعلق الأمر ببيئة ديستوبية “أشبه بالجحيم” في أي عمل. ولكنني أستشعر الإحباط مع بعض الكتاب ممن يشعرون أنه ليس مسموحًا لهم إستخدام بعض العوامل الخيالية مثل التنانين وغيرها، فهناك مجتمع كامل من الكُتاب والقراء المُهمشين.

نشر هذه الرواية منح العديدين الفرصة ليختاروا عما إذا كان من المفترض أن تُوصم مثل هذه البيئات في الكتب أم لا. قد يقول البعض أن التنانين وأسطورة آرثر لوثتهم الكليشيهات المبتذلة وأنه ما عاد بإمكاننا إستخدامهم. ومن ثم هناك آخرون – أمثال نيل جايمان الذي كتب مراجعة عن رواية “المارد الدفين” للنيويورك تايمز – قد يقولون أن عدم إستخدام هذه العوامل يثبط من المشاهد الخيالية ويضفي عليها عنصرية متحفظة وغير جذابة. أعتقد أن هذه الفترة شيقة للغاية فيما يخص هذا النقاش وأعتقد أن هذا النقاش بمثابة جدال بين الأجيال. فيبدو أن الأجيال الأصغر سنًا أكثر تفتحًا.

يعمل كتابك على إستحضار العديد من المشاكل العرقية والدينية التي تسود العالم اليوم، ولكن في الواقع جذور كتابك الأصلية تعود لما حصل أصلاً في بداية التسعينيات في البلقان ورواندا، أليس كذلك؟

نعم، أرغب بالقول أن هذه الأحداث أثارت إهتمامي على رغم عدم كونها موضوعي الأساسي بالمعنى الحرفي. كبرت في ظلال الحرب الباردة، وكمعظم سكان أوروبا، تخيلت أن هجوم نووي كان قادم لا محالة، على فترات متقطعة. ولذلك عندما انتهت الحرب الباردة عام 1989، شعرت بموجة من الراحة والتفاؤل تغمرني. وأعتقد أن ذلك الشعور تزايد بعد ذلك، ولكن بعد مرور عامين أو ثلاثة شاهدنا الانحلال الذي ساد يوغوسلافيا. فمبجرد سقوط نظام تيتو الشيوعي سقطت معه الوحدة والآمان، ونتج عنه كما أعتقد عودة الذكريات المدفونة والعداوات المنسية إلى السطح. وقبل أن ندرك ما يحدث، كنا قد عدنا لقيام معسكرات للمعتقلين في أوروبا، وبدت مجزرة سربرنيتشا كمشهد من الحرب العالمية الثانية. رواندا لم تكن بذلك السوء، ولكن ما حدث فيها كان صادمًا للغاية آنذاك. وفي الحالتين أعتقد أن السؤال الذي طرحه العديد منا كان، كيف يمكن لهؤلاء الأشخاص الذين كانوا يعيشون جنبًا بجنب حرق وقتل بعضهم البعض؟ بالطبع الانشقاقات كانت موجودة على الدوام إلى حد ما، ولكن ما كان مخيفًا هي تلك الذاكرة القبلية التي أقنعتهم بوجود ثأر شخصي ضد جيرانهم. وأعتقد أن ذلك كان بمثابة محفز لي للتفكير في ذاكرة المجتمع وعلاقتها بالكتب التي كتبتها حتى الآن عن الأشخاص الذين يواجهون صعوبة في تقبل ماضيهم الشخصي.

على صعيد آخر يتناول كتابك قصة حب، ولكنها ليست قصة تقليدية.

نعم، في الواقع تمثل “المارد الدفين” رؤيتي لما أعتقد أنه الحب: رحلة هائلة يخوضها الناس معًا. تقابل أكسل وبياتريس ووقعا في الحب وأصبحا معًا منذ وقت طويل، طويل للغاية. وتدور هذه الرواية في السنين الطويلة التي تلت ذلك ومحاولاتهم لإبقاء شعلة الحب متقدة. وكونها رواية عن التذكر والنسيان، يصبح السؤال هو، ما دور الذكريات المشتركة في زواج كهذا؟ ما الذي يحدث عندما يبدآن بتذكر الأشياء بطريقة مختلفة؟ وما الذي تفعله بخصوص الذكريات غير المريحة؟ تمامًا كمثل الدول، هناك بعض الأشياء في العلاقات يفضل الناس إبقاؤها في الماضي. ولكن تجد نفسك أمام سؤال آخر وخاصة عندما يتقدم الناس في السن: إن خرجت تلك الذكريات للنور، فهل سيدمر ذلك الحب؟ وعلى صعيد آخر، إن لم تمعن النظر في تلك الذكريات، فهل يكون الحب صادقًا؟ وأعتقد أن هذه المشكلة التي يواجهها أكسل وبياتريس. تدفعهم غرائزهم لإستعادة ذكرياتهم، مع إيمانهم بأن حبهم قوي كفاية ليتحمل أيًا كان ما سيكتشفونه، ولكن بمرور فصول القصة، تبدأ الشكوك في مراودتهم.

تمتاز رواياتك بالتنوع، كيف تختار موضوع معين للكتابة عنه؟

أعتقد أنني أفضل إختيار كلمات “محيط” أو “نوع أدبي” في هذا السؤال. فموضوعي الرئيسي، إن دققت النظر، هو الذاكرة والمعضلة ما بين التذكر والنسيان. بالطبع في بداية حياتي المهنية، كان الأمر يتعلق أكثر بأشخاص ذوو نوايا حسنة يعتقدون بأنهم ضيعوا موهبتهم ومجهودهم طوال حياتهم. وتوجد كل هذه الأشياء مجتمعة في “المارد الدفين، فأكسل هو أحد شخصياتي التقليدية ممن كان يعتقد بأنه سيغير العالم للأفضل وفي نقطة ما تجده يفكر، لقد ساهمت في حدوث شئ سئ، وعندما تبحث جيدًا، تجد نوع من الاستمرارية. يمكنني القول أن هذا هو موضوعي الرئيسي، على صعيد إنشائي وإنفعالي. فموضوعي ليس كيف بدت الطبيعة الانجليزية عام 500 أو أي شئ من هذا القبيل. بالنسبة لي إختيار المحيط يقع تحت نفس فئة الحكي، فمن يجب أن يكون الراوي، وما هي وجهة النظر التي يجب عليّ أن أتبعها، وما شابه ذلك. بالنسبة لي إختيار المحيط، والأسلوب الأدبي المستخدم – رغم أنني لا أفكر بذلك التمعن في النوع الأدبي – كلها أجزاء من محاولتي لجعل القصة حية.

بالحديث عن وجهات النظر، نشعر بالفضول لإختيارك تجاهل منظور الشخص الأول لمعظم أجزاء رواية “المارد الدفين”.

كتبت رواية “المارد الدفين” من منظور الشخص الثالث، عدا جزئين من منظور شخصيتين مختلفتين، وكان منظور الشخص الثالث غالبًا ما يعكس ما يحدث لأكسل أو الفتى إدوين. يرجع قراري بعدم إستخدام منظور الشخص الأول بكثرة لرغبتي بكتابة رواية عن ذاكرة المجتمع، لا الذاكرة الفردية. في كتب مثل “بقايا اليوم” أو “لا تتخلى عني”، تدور الأحداث بالكامل داخل عقل أحد الشخصيات. ولكن لكي أكتب عن دولة وذاكرتها، شعرت أنني لا أستطيع ذلك.

نرغب بمعرفة رأيك في الأفلام المقتبسة من رواياتك “بقايا اليوم” و “لا تتخلى عني”.

سعدت كثيرًا بكلا الفيلمين. أعتقد أنه ممتع أن يتمكن أشخاص موهوبين من أخذ قصة حلمت بها في مكتبي ويحاولوا أن يجعلوا منها عملاً خاصًا بهم. أجدني معجبًا بفكرة أنني ساهمت بشئ ما وهذا الشئ بدأ في الانتشار والتغلغل في ثقافتنا. أشعر بالإطراء الشديد، كوني ساهمت بجزء صغير في صنع مخيلة الجمهور. أليس هذا هدف كتابتنا للقصص في نهاية الأمر؟ كل ما أطلبه من الأفلام المُقتبسة هو أن تكون تعبير صادق عن رؤية صناعها. أرغب بأن تكون للأفلام قناعتها الفنية الخاصة. هذا أهم شئ، أكثر أهمية حتى من إخلاصهم لروايتي.

أخبرنا عن عملية الكتابة الخاصة بك، أهناك روتين معين أو شئ يميز طريقة كتابتك؟

ربما لا أختلف كثيرًا عن باقي المؤلفين، ولكنني أفضل الكتابة بشكل مجزء عوضًا عن كتابة مسودة كاملة دفعة واحدة. ولكن كان هناك استثناء واحد، وهو مع رواية “لا تتخلى عني”، لسبب ما شعرت بالتوتر البالغ أثناء كتابة تلك الرواية وخشيت من التوقف وكتبتها دفعة واحدة حتى النهاية. ولكن مع كتبي الأخرى، كنت أكتب ثلاثون أو أربعون صفحة بحرص، وأراجعهم لأربع أو خمس مرات، حتى أكون راضيًا ومقتنعًا بها بشكل أفضل ومن ثم أنتقل للجزء التالي. ينبع هذا من رغبتي ببناء أساس صلب قبل أن أضع الحجر الأول. لا أرغب بالقيام بأي قرارات فنية إعتباطية قد يكون لها تأثير سلبي على باقي الكتاب.

أي كتب أو كُتاب كان لهم تأثير بالغ عليك في بداية مسيرتك المهنية؟

كلا من روايتي شارلوت برونتي “جين إير” و “فيليت” كان لهم أثر كبير عليّ، وخاصة فيما يخص إستخدامها لمنظور الشخص الأول – أسلوب خجول بعض الشئ في إستخدام ذلك الأسلوب، فنجد الراوية تبوح ببعض المشاعر العميقة لتدرك فيما بعد أنها قد أخفت بعض الحقائق المحورية. دستيوفيسكي كان كاتبًا أحببته في فترة مراهقتي، رغم أنني لم أعد منبهرًا به الآن. وكمثل أشخاص كثير من جيلي، كان كتاب جاك كيرواك “على الطريق”  بمثابة حلقة الوصل الهامة ما بين موسيقى الروك والكتب. أثناء نشأتي في بريطانيا، كان حلمي هو الذهاب لأميركا والسفر ما بين الولايات متأثرًا بكل أغاني الروك الأميركية التي سمعتها. وأعتقد أن كتاب كيرواك هو الكتاب الوحيد الذي كان يتمتع بذلك الحس. كان هذا مبكرًا في حياتي، ولكن أعتقد أن ذلك ما دفعني للتفكير أن الكتب بإمكانها أن تكون ممتعة.

أليس مونرو وحوارها مع “ذا باريس ريفيو”

Standard

994044_1477778782447368_1315264117_n

حاورها جين ماكلوش ومنى سمبسون
لـ The Paris Review

ليست هنالك طائرة مباشرة من نيويورك إلى كلينتون، أونتاريو، المدينة الكندية ذات تعداد الـ 3000 نسمة حيث تعيش أليس مونرو معظم الوقت. رحلنا عن لاجورديا في صباح أحد أيام يونيو، استأجرنا سيارة في تورنتو، وقدنا لمدة ثلاث ساعات على طرق أضحت أصغر وأكثر ريفية. بحلول الغروب، توقفنا أمام منزل حيث تعيش مونرو مع زوجها الثاني، جيري فريملن. المنزل ـ حيث ولد فريملن ـ به حديقة خلفية ومجموعة أزهار غريبة. في المطبخ، كانت مونرو تقوم بإعداد وجبة بسيطة باستخدام أعشاب محلية عطرة. غرفة الطعام محاطة من السقف وحتى الأرض بالكتب، وفي أحد الجوانب توجد طاولة صغيرة تحمل آلة كاتبة يدوية. هذا هو مكان عمل مونرو.

بعد فترة، أخذتنا مونرو إلى جودريك، وهي مدينة أكبر في الحزام الريفي، حيث قامت بالحجز لنا في فندق بيدفورد الواقع في الساحة مقابل المحكمة. الفندق مبني على طراز القرن التاسع عشر بغرف مريحة (سريران متقابلان بلا مكيف هواء)، هو مكان يبدو أنسب لإقامة أمين مكتبة أو مدرس لعدة أيام في إحدى قصص مونرو. على مدار الثلاثة أيام التالية، تحدثنا في منزلها، ولكن لم نترك المسجل ليعمل أبدًا. قمنا بالحوار في غرفتنا الصغيرة بالفندق، لأن مونرو أرادت “الإبقاء على العمل خارج المنزل”. تربى كل من مونرو وزوجها وترعرعا على بعد عشرين ميلاً من حيث يقطنان الآن؛ هما يعرفان تاريخ كل مبنى مررنا به، أعجبنا به، أو أكلنا فيه. سألناهم كذلك عن المجتمعات الأدبية أو الثقافية المتوفرة في المنطقة المحيطة. على الرغم من وجود مكتبة في جودريك، أخبرونا بأن أقرب مكتبة جيدة تقع في ستراتفورد، على بعد ثلاثين ميلاً. وعندما سألنا عن وجود كُتاب محليين أخرين، قادت السيارة من أمام منزل متهالك على وشك السقوط، حيث رأينا رجلاً عاري الصدر يجلس على الحافة الخلفية للمنزل، منحنيا على آلة كاتبة، محاطاً بالقطط. “يجلس بهذه الطريقة كل يوم” أخبرتنا مونرو. “سواء في المطر أو الصحو. أنا لا أعرفه، ولكنني أكاد أموت من الفضول لمعرفة ما ينتويه”.

خلال نهارنا الأخير في كندا، بعد إمدادنا بإرشادات الطريق، وجدنا المنزل الذي نشأت فيه أليس مونرو. بنى والدها هذا المنزل وربى ثعالب المنك هناك. بعد عدة محاولات فاشلة، وجدناه، منزل صخري جميل في نهاية الطريق، يقابله ميدان واسع حيث تقف إحدى الطائرات. كان من السهل من موقعنا هذا، تخيل السحر المحيط بذلك المكان، طيار يأخذ زوجة ريفية بعيداً على متن طائرة، مثلما حدث في “المستنقع الأبيض”، أو ذلك الطيار البديل الشاب الذي هبط في ميدان كهذا  في قصتها “كيف إلتقيت بزوجي”.

مثل المنزل، مثل المنظر الطبيعي في أونتاريو، الذي يشبه كثيراً شمالي أمريكا، لم تكن مونرو ثقيلة الحضور. هي مهذبة ورقيقة، تتمتع بحس دعابة لطيف. ألفت ما يزيد على سبع مجموعات قصصية (حتى وقت إجراء هذا الحوار) ورواية “حيوات الفتيات والنساء”، وقد فازت بجائزة الحاكم العام (وهي أرقى جوائز كندا الأدبية)، وعادة ما تؤخذ أعمالها كمثال على أفضل القصص الأمريكية القصيرة، كما أنها مشاركة شبه دائمة في الكتابة بمجلة “النيويوركر”، وقد فازت مؤخراً بجائزة نوبل للآداب. وعلى الرغم من هذه الإنجازات العديدة، لا تزال مونرو تتحدث عن الكتابة بنفس التوتر وعدم الثقة التي نسمعها في حديث الكُتاب المبتدئين. لا تتمتع بحس العظمة الذي يتمتع به الكتاب المشاهير، لذلك من السهل أن ننسى أنها أحدهم. عندما تتحدث عن عملها، يبدو وكأن ما تفعله ليس بالأمر السهل، ولكنه ممكن، وكأن أي شخص يستطيع القيام به فقط إن بذل جهده. وعند مغادرتنا، شعرنا بحس الإمكانية المُعدي ذلك. قد يبدو الأمر بسيطاً، ولكن كتاباتها تتمتع ببساطة ممتازة تتطلب سنين ومئات المسودات لإتقانها. وكما قالت سينثيا أوزيك، “إنها تشيكوف الخاص بنا، وستتفوق على معظم كُتاب جيلها”.

المحاورة: ذهبنا إلى المنزل الذي نشأتِ فيه هذا الصباح، هل قضيتِ طفولتك بأكملها هناك؟

مونرو: نعم. عندما توفي والدي، كان مازال مقيماً في ذلك المنزل بالمزرعة، التي كانت مزرعة لثعالب المنك. ولكنه تغير كثيراً. أصبح الآن صالون تجميل يدعى التدليل التام. أعتقد أنهم أقاموا الصالون في الجناح الخلفي، وهدموا المطبخ بأكمله.

المحاورة: هل دخلتِه منذ ذلك الحين؟

مونرو: لا لم أفعل، ولكنني فكرت إن فعلت سأطلب منهم رؤية غرفة الجلوس. هناك المدفأة التي بناها والدي وأرغب برؤيتها. وقد فكرت أحياناً في الذهاب إلى هناك وتدريم أظافري.

المحاورة: لاحظنا وجود طائرة في الميدان المقابل له وفكرنا في قصصك “المستنقع الأبيض” و “كيف التقيت بزوجي”.

مونرو: نعم، كان ذلك مطاراً لفترة من الوقت. كان مالك المزرعة يهوى قيادة الطائرات، وكان يمتلك طائرة صغيرة. لم يحب الزراعة قط لذلك غادرها وأصبح مدرب طيران. هو ما زال على قيد الحياة. صحته ممتازة وهو أحد أوسم الرجال الذين عرفتهم على الإطلاق. تقاعد وتوقف عن إعطاء دروس الطيران في سن الخامسة والسبعين. بعد ثلاثة أشهر من تقاعده ذهب في رحلة وأصيب بمرض غريب تسببه الخفافيش في الكهوف.

المحاورة: القصص في مجموعتك الأولى “رقصة الظلال السعيدة”، تتحدث بوضوح عن هذه المنطقة، عالم طفولتك. في أي مرحلة من حياتك كتبتِ تلك القصص؟

مونرو: كتابة تلك القصص امتد لفترة 15 عاماً. “يوم الفراشة” كانت أولها. أعتقد أنني كتبتها عندما كنت في الحادية والعشرين. وأتذكر بوضوح كتابتي لقصة “شكراً على الرحلة” لأن طفلي الأول كان نائماً في مهده بجواري. لذلك كنت في الثانية والعشرين. القصص الأخيرة كتبتها في ثلاثينيات العمر. “رقصة الظلال السعيدة” إحداها، و”سلام أوتريخت” أخرى. “صور” كانت آخرهم. “الأخوة والكر رعاة البقر” كتبتها بعد بلوغي الثلاثين كذلك. لذلك هنالك فاصل زمني كبير.

المحاورة: كيف يبدو موقف تلك القصص الآن؟ هل تعيدين قراءتهم؟

مونرو: هنالك قصة في تلك المجموعة تدعى “المنازل اللامعة”، إضطررت لقراءتها في تورنتو منذ سنتين أو ثلاث سنين من أجل حدث خاص للإحتفال بتاريخ مجلة “تاماراك ريفيو”. وبما أن القصة نشرت في البداية في أحد أعداد المجلة، كان علي قراءتها، وكان ذلك صعباً. أعتقد أنني كتبت تلك القصة عندما كنت في الثانية والعشرين. كنت أقوم بتعديلها أثناء قراءتها، إلتفت إلى كل الخدع التي استخدمتها في ذلك الوقت، والتي تبدو الآن قديمة للغاية. كنت أحاول إصلاحها بسرعة أثناء القراءة، وكانت عيني تنتقل للفقرة التالية بسرعة أثناء قراءتي، لأنني لم أكن قد قرأتها قبل الحدث. لا أقرأ شيئاً مقدماً قبل أي حدث. عندما أقرأ قصة قديمة أرى أشياء لن أفعلها الآن، أشياء كان الناس يقومون بها في الخمسينيات.

المحاورة: هل راجعتِ أحد قصصك بعد نشرها من قبل؟ يبدو أن، بروست، قبل وفاته، قام بإعادة كتابة الأجزاء الأولى من “تذكر أشياء مضت”.

مونرو: نعم، وهنري جيمس أعاد كتابة الأشياء السهلة المفهومة لتصبح صعبة وغامضة. في الواقع فعلت ذلك مؤخراً. قصة “الانجراف بعيداً” كانت ضمن مجموعة “أفضل قصص أمريكية قصيرة 1991”. قرأتها مجدداً ضمن المجموعة، لأنني أردت تذكر كيف تبدو ووجدت مقطعاً بدا رديئاً للغاية. كان مقطعاً صغيراً هاماً للغاية، ربما من سطرين فقط. أخذت قلما وأعدت كتابته في جزء فارغ في المجموعة لتكون متاحة لي عند نشر القصة في كتاب. غالباً ما كنت أقوم بمراجعات في هذه المرحلة وتتضح فيما بعد أنها أخطاء لأنني لم أعد متبعة نفس إيقاع القصة. فأرى جزءًا مكتوباً ليس مؤثراُ كما ينبغي أن يكون، فأقوم في النهاية بتعديله قليلاً. ولكن عندما أقرأ القصة مرة أخرى أجدها قد أصبحت غريبة بعض الشئ. لذلك لست متأكدة من أمر كهذا. الإجابة قد تكون أنه يجب على المرء التوقف عن هذا التصرف. يجب أن تصل لنقطة ما حيث تقول، كما تفعل مع طفلك، أنه لم يعد ملكي.

المحاورة: ذكرتِ قبلاً أنك لا تدعين أصدقاءك يرون أعمالك أثناء كتابتها.

مونرو: لا، فأنا لا أري أي شخص أي عمل أثناء كتابته.

المحاورة: كم تعتمدين على المحررين؟

مونرو: “النيويوركر” كانت أول تجاربي مع التحرير الجاد. قبل ذلك كنت أقوم ببعض التعديلات البسيطة بناء على بعض الإقتراحات فحسب. يجب أن يكون هنالك إتفاق بيني وبين المحرر عما قد يحدث. فالمحرر الذي لا يرى أن هنالك خطباً ما في قصص ويليام ماكسويل، على سبيل المثال، لا يعنيني في شئ. يجب أن يكون ذا نظرة ثاقبة لأشياء قد أخدع نفسي بها. تشيب ماكجراث من “النيويوركر” كان محرري الأول، وكان جيداً فعلاً. كنت منبهرة لوجود شخص يعرف بدقة ما أود فعله. معظم الوقت لم يكن لدينا الكثير لنفعله، ولكنه كان يوجهني بين الحين والأخر. أعدت كتابة قصة تدعى “موسم الديك الرومي”، وقد تقبلها فعلاً. تصورت أنه سيتقبل النسخة الجديدة بسهولة ولكنه لم يفعل. وقال، حسناً هنالك أشياء أحببتها في النسخة الجديدة، وهنالك أشياء أحببتها أكثر في النسخة القديمة، لم لا نحاول معًا؟ قمنا بجمع الأجزاء معاً وتوصلنا بتلك الطريقة إلى قصة أفضل، كما أعتقد.

المحاورة: كيف تحقق ذلك؟ عن طريق الهاتف أو البريد الإلكتروني؟ أم تذهبين إلى مكتب “النيويوركر” وتعملان معاً؟

مونرو: عن طريق البريد الإلكتروني. علاقتنا جيدة جداً على الهاتف، ولكننا لم نرَ بعضنا البعض سوى مرات معدودة.

المحاورة: متى نشرتِ لأول مرة في “النيويوركر”؟

مونرو: “ضربات ملكية” كانت قصتي الأولى، ونشرتها عام 1977. ولكنني أرسلت كل قصصي الأولى إلى “النيويوركر” خلال 1950، ثم توقفتُ عن الإرسال لفترة طويلة وكنت أرسل فقط إلى المجلات في كندا. رغم ذلك كانت “النيويوركر” ترسل لي رسائل لطيفة، رسائل غير رسمية مكتوبة بالقلم الرصاص. لم تكن موقعة. ولم يكونوا مشجعين تماماً. مازلت أتذكر إحداهم تقول: الكتابة لطيفة فعلاً، ولكن القصة مألوفة للغاية. وقد كانت بالفعل. كانت قصة رومانسية بين شخصين مسنين، عانس مسنة تدرك أن هذه نهايتها عندما يتقدم للزواج منها مزارع مسن. كتبت عن الكثير من العوانس المسنات في قصصي. كانت تدعى “يوم أزهرت النجميات”. وكانت فظيعة حقاً. حتى أنني لم أكتبها في سن السابعة عشر، كنت في سن الخامسة والعشرين. أتساءل لماذا كتبت عن العوانس المسنات. لم أعرف أي عانس مسنة في حياتي.

المحاورة: حتى أنك تزوجتِ في سن صغيرة. فلم تكوني تتوقعين حتى أن تقضي حياتك كعجوز عانس.

مونرو: أعتقد أنني كنت أشعر في قلبي أنني عجوز عانس.

المحاورة: هل كنتِ دائمة الكتابة؟

مونرو: منذ أن كنت في الصف السابع أو الثامن.

المحاورة: هل كنتِ كاتبة جادة بدخولك الجامعة؟

مونرو: نعم. لم تكن أمامي أي فرصة لعمل أي شئ أخر لأنني لم أكن أملك نقوداً. وكنت أعرف أنني سأظل في الجامعة لمدة سنتين فقط لأن المنح المتاحة أنذاك استمرت لسنتين فقط. كانت بمثابة فترة أجازة في حياتي، وقت رائع. كنت مسئولة عن الأعمال المنزلية منذ مراهقتي، لذلك فترة الجامعة كانت الفترة الوحيدة من حياتي التي لم أضطر فيها للقيام بأي أعمال منزلية.

المحاورة: هل تزوجت مباشرة بعد انقضاء السنتين؟

مونرو: تزوجت بعد السنة الثانية مباشرة. كنت في العشرين. ذهبنا إلى ڤانكوڤر. كان هذا الشئ العظيم بخصوص الزواج، تلك المغامرة الكبري، الانتقال. إلى أبعد مكان نستطيع الذهاب إليه بحيث نظل داخل الدولة كذلك. كان عمرانا عشرين واثنين وعشرين عاما. قمنا بإنشاء كيان مناسب أشبه بمستوى حياة الطبقى الوسطى. كنا نفكر في الحصول على منزل وإنجاب طفل، وفعلنا تلك الأشياء بسرعة. فقد أنجبت طفلي الأول في سن الثانية والعشرين.

المحاورة: وكنتِ تكتبين خلال كل ذلك؟

مونرو: كنت أكتب بيأس خلال فترة حملي لأنني إعتقدت أنني لن أتمكن من الكتابة بعد ذلك. مع كل حمل كانت حماستي تزيد لإنجاز شئ كبير قبل مجئ الطفل. وفي الواقع لم أنجز أي شئ كبير.

المحاورة: في قصة “شكراً على الرحلة” تكتبين من وجهة نظر فتى مدينة قاسي يلتقي فتاة قروية فقيرة وينام معها في ليلة ويعجب ويتقزز، في آن واحد، من حياتها الفقيرة. يبدو غريباً أن تكتبي هذه القصة في وقت كانت حياتك فيه مستقرة ومناسبة.

مونرو: أحد أصدقاء زوجي جاء لزيارتنا في الصيف أثناء حملي بابنتي الكبرى. ظل لفترة تقارب الشهر. كان يعمل بلجنة الأفلام القومية، وكان يعمل على فيلم في تلك المنطقة. أخبرنا بأشياء كثيرة، وكنا نتحدث كما تفعلان، بقص حكايات مختلفة عن حياتنا. وحكى لنا قصة عن وجوده بمدينة صغيرة وخروجه برفقة فتاة محلية. كان ذلك لقاء فتى من الطبقة الوسطى بشئ كان مألوفاً نوعاً ما لي ولكنه لم يكن مألوفاً بالنسبة له. لذلك تشاركت الفتاة المشاعر وأحسست بعائلتها وموقفها، وأعتقد أنني كتبت القصة بعدها بفترة قصيرة لأن طفلتي كانت تحدق فيَّ من مهدها.

المحاورة: كم كان عمرك عندما صدر كتابك الأول؟

مونرو: كنت في السادسة والثلاثين. واصلت في كتابة تلك القصص على مدار سنين وأخيراً قام محرر من ريرسون بريس؛ دار نشر كندية ضمتها لها ماكجرو هيل، بالتواصل معي وسألني إن كان لدي ما يكفي من القصص لكتاب. في البدء كان سيضعني في كتاب مع كاتبين أو ثلاثة كتاب آخرين. ولكن فشل ذلك، ولكن كانت لديه مجموعة كبيرة من قصصي. استقال بعدها ولكنه جعلني أتواصل مع محرر آخر، الذي أخبرني، إن كتبت ثلاث قصص أخريات، سأتمكن من إصدارها في كتاب. لذلك كتبت “صور”، “الأخوة والكر رعاة البقر” و “طابع بريد” في السنة الأخيرة قبل نشر الكتاب.

المحاورة: هل نشرتِ هذه القصص في المجلات؟

مونرو: معظمها تم نشره في “تاماراك ريفيو”. كانت مجلة صغيرة لطيفة، مجلة شجاعة بحق. المحرر هنالك أخبرني بأنه المحرر الوحيد في كندا ممن يعرف قراءه بأسمائهم الأولى.

المحاورة: هل كان لديك وقتٌ محدد للكتابة؟

مونرو: عندما كان أطفالي في سن صغيرة، كان وقتي يبدأ بمجرد ذهابهم إلى المدرسة. لذلك عملت بجد خلال تلك السنوات. أنا وزوجي كنا نمتلك مكتبة، وحتى أثناء عملي هناك، كنت أبقى في المنزل حتى الظهيرة. كان من المفترض بي القيام بالواجبات المنزلية، وكنت وقتها أقوم بكتاباتي كذلك. لاحقاً، عندما لم يعد يتعين علي العمل يومياً في المتجر، كنت أعمل بجد حتى عودة الجميع إلى المنزل وقت الغداء، ثم بعد عودتهم مرة أخرى، ربما حتى الساعة الثانية والنصف، ثم أشرب كوباً سريعاً من القهوة وأبدأ في القيام بالأعمال المنزلية، وأحاول إنهاءها جميعاً قبل المساء.

المحاورة: وعندما لم تكن الفتيات في عمر المدرسة، متى كنت تكتبين؟

مونرو: أثناء قيلولتهم.

المحاورة: كنتِ تكتبين أثناء نومهم؟

مونرو: نعم، من الواحدة حتى الثالثة عصراً. كتبت الكثير من الأشياء الرديئة، ولكنني كنت منتجة. السنة التي كتبت فيها كتابي الثاني “حياة الفتيات والنساء”، أنتجت الكثير. كان لدي أربعة أطفال لأن إحدى صديقات ابنتي جاءت للعيش معنا، وكنت أعمل في المتجر يومين في الأسبوع. اعتدت العمل حتى الواحدة صباحاً ثم الاستيقاظ في السادسة. وأتذكر كيف كنت أفكر بأنني قد أموت، هذا شئ فظيع، سأصاب بنوبة قلبية. كنت آنذاك في التاسعة والثلاثين تقريباً، ولكنني كنت أفكر في هذا، ثم فكرت في شئ، حتى وإن مت، فقد كتبت صفحات كثيرة. يستطيعون معرفة كيف ستنتهي. كنت في سباق ميئوس منه. لم أعد أملك ذلك القدر من الطاقة الآن.

المحاورة: ما العملية التي اتبعتها أثناء كتابة “حيوات”؟

مونرو: أتذكر اليوم الذي بدأت فيه بكتابتها. كان شهر يناير، يوم أحد. ذهبت إلى المكتبة، لم نكن نفتحها في أيام الأحاد، وحبست نفسي بالداخل. زوجي قال لي بأنه سيحضر العشاء، لذلك كانت أمامي الظهيرة بأكملها. أتذكر أنني نظرت إلى كل كتب الأدب العظيمة حولي وفكرت، أيتها الغبية! ماذا تفعلين هنا؟ ولكنني صعدت إلى المكتب وبدأت بكتابة جزء يدعى “الأميرة إيدا”، وهو عن أمي. كتابتي عن أمي هي أهم مادة في الحياة، وأستدعيها بسهولة إلى عقلي عندما أستعد للكتابة. إن استرخيت، ذلك هو كل ما أفكر فيه. لذلك، بمجرد أن بدأت في كتابة ذلك، انطلقت. ولكنني ارتكبت خطأ كبيراً. حاولت أن أجعل منها رواية عادية، رواية عادية عن الطفولة والبلوغ. بحلول شهر مارس رأيت أنها لن تنجح بهذا الشكل. لم أشعر بأنها مناسبة، وفكرت في أنني قد أضطر إلى التخلي عنها. كنت مكتئبة للغاية. ثم فكرت في أنه كل ما علي فعله هو أن أفككها وأحولها لقصص. عندها أستطيع التعامل معها. عندها عرفت أنني لن أتمكن من كتابة رواية حقيقية لأنني لا أفكر بتلك الطريقة.

المحاورة: “الخادمة المتسولة” كذلك شبيهة برواية لأنها عبارة عن قصص مترابطة ببعضها البعض.

مونرو: لا أريد أن أعيد تخمين الأشياء بكثرة، ولكن كثيراً ما رغبت بعمل سلسلة أخرى من القصص. في كتابي “الأسرار المفتوحة”، هنالك شخصيات تعاود الظهور. بيا دود في “المخربون” يتم ذكرها كالفتاة الصغيرة في “الانجراف بعيداً”، وهي أول قصة أكتبها لهذه المجموعة. بيلي دودو هو ابن أمين المكتبة. ويتم ذكرهم جميعاً في “لقد هبطت السفن الفضائية”. ولكن لا ينبغي علي أن أجعل هذه الخطة مسيطرة أكثر من القصة نفسها. إن بدأت بتعديل وتشكيل قصة ما لجعلها تلائم أخرى، فإن ما أفعله خاطئ، أستخدم القوة حيث لا ينبغي علي. لذلك لا أعرف إذا ما كنت سأقوم بهذا النوع من السلاسل مرة أخرى أو لا، رغم أنني أحب فكرتها. كاثرين مانسفيلد قالت شيئاً في إحدى رسائلها مثل، أتمنى كتابة رواية، أتمنى ألا أموت تاركة هذه القطع الصغيرة فقط. من الصعب للغاية أن تتوقف عن ذلك الشعور المتعلق بالقطع الصغيرة إن كان كل ما تخلفه وراءك قصص متفرقة. أعلم أنكم تفكرون في تشيخوف، ولكن مازال الأمر صعباً.

المحاورة: وتشيخوف نفسه أراد كتابة رواية. كان سيسميها “قصص من حيوات أصدقائي”.

مونرو: أعرف. وأعلم كيف تشعر عندما تتمكن من تحقيق ذلك الانجاز وتضع كل شئ في مجموعة واحدة.

المحاورة: عندما تبدأين في كتابة قصة هل تكون لديكِ فكرة مسبقة عما ستكون عليه؟

مونرو: ليس بالكامل. أي قصة جيدة يجب عليها أن تتغير. حالياً أكتب قصة بدون أي تحضير. أعمل عليها كل صباح، وتسير الأمور بسلاسة. لا أفضل هذه الطريقة، ولكنني أعتقد، في مرحلة ما، سأعتاد عليها. في العادة، أتعرف على القصة قليلاً قبل كتابتها. عندما لم يكن لدي وقت ثابت للكتابة، كانت القصص تختمر في عقلي لفترة طويلة لدرجة أنني عند البدء في كتابتها أكون قد تعمقت فيها بالفعل. الآن، أقوم بهذا العمل عن طريق ملئ الدفاتر.

المحاورة: هل تستخدمين الدفاتر؟

مونرو: لدي أكداس من الدفاتر التي تحوي كتاباتي الفظيعة المبتدئة، وهي لا تعد شيئاً سوى محاولة للكتابة. أتساءل كثيراً، عندما أنظر لتلك المسودات الأولى، إن كان هنالك هدف من فعل ذلك من الأساس. أنا على عكس الكاتب ذي الموهبة السريعة، تعرفين، ذلك الكاتب الذي يتمتع بموهبة حاضرة. أنا لا أتمكن من إستحضارها بنفس ذلك الإستعداد، أياً كان ما أحاول فعله. غالباً ما أجد نفسي على المسار الخاطئ وأضطر لإعادة نفسي إلى المسار الصحيح مرة أخرى.

المحاورة: كيف تعرفين أنك على المسار الخاطئ؟

مونرو: قد أكون في خضم كتابة شئ في أحد الأيام وأعتقد بأنني أبلي بلاء حسناً، أكون كتبت صفحات أكثر من المعتاد. ثم أستيقظ في اليوم التالي وينتابني شعور بأنني لا أرغب بالعمل عليه بعد الآن. عندما أقترب من ذلك العمل على مضض، عندما أضطر للضغط على نفسي لإكماله، حينها أعرف أن هنالك خطباً ما. عادة، خلال إتمامي لثلاثة أرباع العمل، أصل لمرحلة ما، وعادة ما تكون مبكرة، وأشعر بأنني على وشك التخلي عن تلك القصة. أمر بيوم أو يومين من الإكتئاب السئ، وأكثر من التذمر. وأفكر في شئ أخر يمكنني كتابته. الأمر يشبه العلاقة الغرامية: فأنت تحاولين الهرب من كل الإحباطات والبؤس عن طريق الخروج مع رجل جديد لا تحبينه فعلاً، ولكنك لم تلحظي ذلك بعد. ثم فجأة، أفكر في تطور جديد لتلك القصة التي أهملتها، وأفكر في طريقة لتنفيذه. ولكن عادة ما يحدث ذلك بعد أن أقول، لن تنجح تلك القصة، علي بنسيانها.

المحاورة: هل تستطيعين فعل ذلك دوماً؟

مونرو: في بعض الأحيان لا أستطيع، وأقضي اليوم بأكمله في حالة مزاجية سيئة. يكون ذلك الوقت الوحيد الذي أكون فيه منزعجة بحق. إذا تحدث جيري معي أو تكرر دخوله وخروجه من الغرفة، أصبح على حافة الغضب. وإذا قام بالغناء أو شئ من هذا القبيل، يكون الوضع أسوأ. أنا أحاول التفكير في شئ ما، ولكن ينتهي بي الأمر بالإصطدام بحائط صخري، ولا أتمكن من التوصل إلى حل. عادة ما أفعل هذا لفترة من الوقت قبل الاستسلام تماماً. هذه العملية قد تستغرق أسبوعًا. الوقت الذي أحاول التفكير فيه، محاولة إستعادة تلك الأفكار، ثم الاستسلام تماماً والتفكير في شئ أخر، ثم العودة للتفكير فيها مرة أخرى بشكل غير متوقع، عندما أكون في سوق الخضراوات أو أثناء قيادتي للسيارة. سأفكر، ربما علي فعلها من وجهة نظر أخرى، وعلي التخلي عن تلك الشخصية، وبالطبع هؤلاء الأشخاص ليسوا متزوجين، او أياً كان التغيير. التغيير الكبير عادة ما يكون التغيير الجذري.

المحاورة: هل تنجح القصة بتلك الطريقة؟

مونرو: أنا لا أعرف إن كان ذلك يجعل القصة أفضل. كل ما تفعله هذه الطريقة هي أنها تمنحني القدرة على متابعة الكتابة. هذا ما أقصده عند قولي بأنني لا أملك ذلك الإحساس العارم الذي يطغى علي ويملي علي ما يجب ان أفعله. أنا بالكاد، وبصعوبة بالغة، أعرف ما أريد الكتابة عنه.

المحاورة: هل تقومين غالباً بتغيير النبرة أو وجهة النظر؟

مونرو: نعم، أحياناً أكون غير واثقة، وأقوم بتغيير وجهة النظر لدى الشخص الأول إلى منظور الشخص الثالث أكثر من مرة. هذه إحدى مشاكلي الكبرى. غالباً ما أستخدم منظور الشخص الأول لأندمج في القصة ثم أشعر لسبب ما أنها ليست ناجحة. وفي هذه النقطة أكون حساسة لآراء الأخرين. وكيل أعمالي لم يعجبه منظور الشخص الأول في “العذراء الألبانية” ولذا أعتقد أن هذا، لأنني نفسي لم أكن واثقة من استخدامه، ما جعلني أغيره. ولكنني غيرته مرة أخرى لمنظور الشخص الأول.

المحاورة: عن وعي وبموضوعية، ما مدى فهمك لما تفعلينه؟

مونرو: ليس عن وعي تام، ولكنني أستطيع رؤية ما يمكن إفساد قصة ما. أرى الأمور السلبية بأسهل مما أفعل مع الأمور الإيجابية. بعض القصص لا تسير بسلاسة مثل قصص أخرى، وبعض القصص أخف في تخيلها.

المحاورة: أخف؟

مونرو: أشعر بأنها أخف بالنسبة لي. لا أشعر بإرتباط عميق بها. كنت أقرأ السيرة الذاتية لموريل سباركس. هي تعتقد، لأنها مسيحية كاثوليكية، أن الله هو المؤلف الحقيقي. لذلك يتوجب علينا ألا نحاول انتزاع تلك السلطة، ألا نكتب خيالا عن معنى الحياة، نحاول فيه تجسيد ما لا يستطيع تجسيده سوى الله. لذلك يجب علينا كتابة وسائل ترفيه. أعتقد أن هذا ما تقصده في كلامها. وأعتقد أنني أحياناً أقوم بكتابة قصص بنية جعلها وسيلة ترفيه.

المحاورة: هل بإمكانك إعطاءنا مثالاً على ذلك؟

مونرو: أعتقد أن قصة “فندق جاك راندا”، التي أحبها، تصلح أن تكون وسيلة ترفيه. أردتها أن تكون كذلك. ولكن قصة مثل “صديق شبابي” لا تصلح لأن تكون وسيلة ترفيه. بل على العكس تماماً. فهي من أعمق حالاتي.

المحاورة: هل تتعذبين أثناء كتابتك لقصص “الترفيه” تلك كما تفعلين أثناء كتابة أعمالك المحورية الأخرى؟

مونرو: نعم، أفعل.

المحاورة: هل هنالك قصص لم تواجهك أي صعوبات في كتابتها؟

مونرو: في الواقع كتبت “صديق شبابي” بسرعة كبيرة. من حكاية سمعتها. هنالك شاب أعرفه يعمل في المكتبة بجودريك ويقوم بعمل بعض الأبحاث لي. كان في منزلنا في ليلة ما وبدأ بالحديث عن جيران عائلته، جيران يسكنون المزرعة المجاورة. وكانوا ينتمون لطائفة دينية تحرم عليهم اللعب بالورق، ولذلك كانوا يلعبون كروكينول، وهي لعبة طاولة. كان هذا ما قاله، بعدها سألته عن أفراد العائلة، ديانتهم، كيف كان مظهرهم. قام بوصفهم لي ثم أخبرني بفضيحة الزواج: الشاب الذي يظهر باعتباره عضواً في الكنيسة ويخطب الابنة الكبرى. ولكن، المفاجأة الكبرى، الأخت الصغرى كانت حاملا لذلك كان يجب تبديل الزواج. ويعيشون جميعاً في منزل واحد في النهاية. كل ما تم ذكره عن إصلاح المنزل، وإعادة دهانه حقيقي. قام الزوجان بدهان نصفهما، والأخت الكبرى لم تفعل، لذلك تم دهان نصف المنزل فقط.

المحاورة: هل كانت هناك ممرضة حقاً؟

مونرو: لا، اخترعت الممرضة، ولكنني استوحيت الاسم. كان هنالك حدث لجمع المعونات في مسرح بليث، على بعد عشرة أميال من هنا. وقد شارك الجميع بشئ ما يُباع لجمع المال، واقترح أحدهم أن أستغل المزاد وأستخدم اسم المراهن الناجح كاسم شخصية ما في قصتي القادمة. امرأة من تورنتو دفعت أربعمائة دولار لتصبح شخصية. اسمها كان أودري أتكينسون. فجأة خطر ببالي، هذه هي الممرضة! لم أسمع أخبارا عنها منذ ذاك الحين. أتمنى أنها لم تمانع.

المحاورة: كيف كانت بداية تكوين تلك القصة؟

مونرو: عندما بدأت في كتابتها كنا في أحد رحلاتنا من أونتاريو إلى كولومبيا البريطانية؛ نقود إلى هناك في خريف كل عام ونعود في الربيع. لذلك لم أكن أكتب، بل كنت أفكر في تلك العائلة أثناء الليل في الفندق. ثم تشكلت قصة والدتي حول تلك القصة، وتشكلت كذلك فكرة حكايتي عن أمي، واكتشفت عن ماذا ستكون. سأقول أن الفكرة جاءت بسهولة. لم أواجه أية صعوبات. قمت بتجسيد شخصية أمي مرات عديدة، ومشاعري تجاهها، لم أضطر للبحث والتفكير بشأنها.

المحاورة: لديك العديد من الأمهات في أعمالك. هذه الأم بالتحديد تظهر في قصص عديدة، وتبدو حقيقية فعلاً. ولكن كذلك تبدو فلو، زوجة أب روز في “الخادمة المتسولة”.

مونرو: ولكن فلو لم تكن حقيقية. هي مجرد شخصية تشبه أناسا عرفتهم، ولكنها إحدى تلك الشخصيات المركبة التي يتحدث عنها الكُتاب. أعتقد أن فلو كانت مصدر قوة لأنني كتبت تلك القصة عند عودتي للعيش هنا بعد غيابي لمدة ثلاثة وعشرين عاماً. الثقافة هنا صدمتني بعنف. شعرت بأن العالم الذي أستخدمه، عالم طفولتي، أصبح شاخصاً أمامي. أنه مجرد عالم في ذاكرتي بعد عودتي ومواجهة الواقع. فلو كانت تجسيداً للواقع، فهو واقع أقسى مما أتذكره.

المحاورة: من الواضح أنك تسافرين كثيراً، ولكن أعمالك يطغى عليها حس ريفي. هل تعتبرين القصص التي تسمعينها هنا ذات صدى أكبر، أم تستخدمينها كما تستخدمين القصص التي تسمعينها في المدن أثناء حياتك بها؟

مونرو: عندما تعيشين في مدينة صغيرة تسمعين أشياء كثيرة، عن مختلف الشخصيات. في المدينة تسمعين قصصا عن أشخاص يشبهونك. في حال كونك إمرأة هنالك الكثير لتسمعينه من الأصدقاء. استوحيت قصة “اختلاف” من حياتي في ڤيكتوريا، وكثير من تفاصيل “المستنقع الأبيض”. استوحيت قصة “نوبات” من حادثة فظيعة وحقيقية حدثت هنا – عملية القتل/الانتحار لثنائي في الستينيات من العمر. في المدينة، كنت سأقرأ عنها في الجريدة، لم أكن لأمسك بكل الخيوط.

المحاورة: أيهما أسهل بالنسبة لك، الابتكار أم تركيب القصص؟

مونرو: أصبحت كتاباتي الشخصية الآن أقل عما كانت عليه لسبب واحد بسيط. فأنت تستهلكين طفولتك، إلا إذا كنت قادرة مثل ويليم ماكسويل، على العودة إلى الماضي واسترجاع ذكريات أخرى رائعة. الجزء الشخصي العميق في الجزء الثاني من حياتك هم أطفالك. تستطيعين الكتابة عن والديك بعد وفاتهما، ولكن أطفالك سيظلون موجودين، وسترغبين في أن يقوموا بزيارتك في دار المسنين. لذلك أنصح بأن تنتقل للكتابة عن قصص تعتمد على الملاحظة أكثر.

المحاورة: على عكس قصصك العائلية، بعض قصصك الأخرى يمكن أن يطلق عليها مفردة “تاريخية”. هل تقومين بالبحث عن تلك المواد، أم تنتظرين ظهورها أمامك؟

مونرو: أعاني من مشكلة في إيجاد المواد لأي قصة. أنتظر ظهورها، وهي دوماً ما تظهر. المشكلة تكمن في طريقة تعاملي مع المواد الجديدة التي تغمرني. في القصص التاريخية كان يجب علي البحث في حقائق كثيرة. عرفت لسنين أنني أرغب بكتابة قصة عن إحدى كاتبات العصر الفيكتوري، إحدى مؤلفات تلك الفترة. فقط لم أتمكن من إيجاد النسق الذي أرغب به؛ كانت سيئة لدرجة مضحكة. كنت أرغب في ان تكون أفضل من ذلك. لذلك كتبتها. عند كتابتي لتلك القصة طالعت الكثير من الجرائد القديمة، تلك التي كان زوجي يحتفظ بها – فقد كان يقوم ببحث تاريخي عن مقاطعة هورن، الجزء المتعلق بأونتاريو. هو عالم جغرافيا متقاعد. حصلت على صورة قوية للمدينة، والتي أسميتها والي. حصلت على صور قوية من قصاصات الجرائد. وأحياناً، عندما كنت أرغب بأشياء محددة، كنت أطلب من الرجل في المكتبة المساعدة. لمعرفة أشياء مثل شكل السيارات القديمة، أو شكل الكنيسة المشيخية في فترة 1850. هو شخص رائع. كان يحب القيام بذلك.

المحاورة: ماذا بشأن العمات الرائعات اللاتي كن يظهرن في أعمالك.

مونرو: عمتى الكبرى وجدتي كانتا مهمتين جداً في حياتنا. فعلى كل حال، عاشت عائلتي في مشروع مزرعة ثعالب المنك المنهار هذا، خارج أكثر مكان سيء السمعة في المدينة، أما هما فقد عاشتا في مدينة حقيقية، في منزل لطيف، وتمكنتا من الحفاظ على تمدنهما. لذلك كان هناك الكثير من التوتر بين منزلنا ومنزلهم، ولكن كان ذلك ضروريا لي. أحببت ذلك في صغري. ثم عندما أصبحت مراهقة، شعرت بعبء ثقيل جراء ذلك. لم تكن أمي تقوم بدور الأنثى الرائدة في حياتي آنذاك، على رغم كونها شخصاً مهماً، لكن لم تعد موجودة باعتبارها من يضع المعايير والقوانين بعد ذلك. لذلك احتلت هاتان السيدتان ذلك الدور، وعلى الرغم من أنهما لم تضعا أية معايير تهمني، إلا أنه كان هنالك نوع من التوتر الدائم والذي كان ضرورياً لي.

المحاورة: إذن أنتِ لم تنتقلي إلى المدينة كما فعلت الابنة والأم في “حيوات الفتيات والنساء”؟

مونرو: فعلنا ذلك في فصل شتاء واحد. قررت أمي أنها ترغب بأن تؤجر منزلاً في المدينة لفصل شتاء واحد، وقد فعلت. وقامت بإقامة حفل غداء للسيدات، حاولت أن تخترق المجتمع، الذي كان منيعاً بالنسبة لها. لم تستطع فعل ذلك. لم يكن هنالك تفهم هناك. أتذكر رجوعي إلى المنزل القروي الذي كان مأهولاً بالرجال، والدي وأخي، وكيف أنني لم أتمكن من رؤية الرسومات على المشمع. بدا وكأن الطين تدفق إلى داخل المنزل.

المحاورة: أهنالك قصة تحبينها ولا يحبها الآخرون؟ أهنالك قصص لا يحبها زوجك على سبيل المثال؟

مونرو: أحببت “القمر في ساحة تزلج شارع أورانج” كثيراً، ولكن جيري لم يحب تلك القصة. إقتبستها من حكايات أخبرني بها عن طفولته، لذلك أعتقد أنه توقع أن تكون القصة بشكل مختلف. ولأنني ظننت أنها ستعجبه؛ لم تكن لدي أية هواجس. وبعدها أخبرني، حسناً ليست أفضل قصصك. تلك كانت المرة الوحيدة التي نواجه فيها مشكلة بسبب إحدى كتاباتي. منذ ذلك الحين أصبح حريصاً جداً لكي لا يقرأ أي شئ إلا في غيابي، ومن ثم إن أعجبته القصة سيخبرني، وربما لن يخبرني بالأمر برمته. أعتقد أن هذه الطريقة المثلى لإنجاح الزواج.

المحاورة: جيري من هنا، على بعد عشرين ميلاً من مكان نشأتك. هل تستفيدين من قصصه وذكرياته أكثر من قصص وذكريات جيم، زوجك الأول؟

مونرو: لا، جيم كان من مدينة بالقرب من تورنتو. ولكن خلفيته كانت مختلفة. فقد عاش في مدينة للطبقة المتوسطة والعليا حيث كان معظم رجالها يسافرون للعمل في تورنتو وكانوا محترفين. شيفر كتب عن مدن كهذه بالقرب من نيويورك. لم أعرف أشخاصا من هذه الطبقة من قبل، لذلك كانت طريقة تفكيرهم ممتعة، ولكنها لم تكن تصلح للسرد. أعتقد أنني كنت عدائية لفترة طويلة لأستطيع تقديرها فعلاً؛ كنت يسارية أكثر أنذاك. على الجانب الأخر كل ما يخبرني به جيري هو بمثابة إمتداد لكل ما أتذكره عن طفولتي – على الرغم من وجود إختلاف بين حياة فتى في المدينة وحياة فتاة في المزرعة. أفضل جزء في حياة جيري ربما يكون بين عمر السابعة والرابعة عشر، عندما كان الصبيان يتجولون في المدينة كعصابات. لم يكونوا جانحين أو أي شئ من هذا القبيل، ولكنهم كانوا يفعلون كما يحلو لهم، وكأنهم جماعة منعزلة داخل المدينة. الفتيات لم يكن هكذا، لا أعتقد ذلك. كنا دائماً في مجموعات صغيرة من الصديقات، فقط لم تكن لدينا الحرية. لذلك كان شيقاً معرفة كل ذلك.

المحاورة: كم من الوقت عشتِه خارج هذه المنطقة؟

مونرو: تزوجت بنهاية عام 1951، ذهبت للعيش في ڤانكوڤر، وبقيت هناك حتى 1963، ثم انتقلنا إلى ڤيكتوريا حيث بدأنا بمشروع مكتبتنا، مكتبة مونرو. ومن ثم عدت، أعتقد بحلول صيف عام 1973. لذلك قضيت عشر سنين فقط في ڤيكتوريا . كنت متزوجة لفترة عشرين عاماً.

المحاورة: هل انتقلتِ مرة أخرى للشرق بسبب لقائك بجيري، أم للعمل؟

مونرو: للعمل. ولأنني عشت مع زوجي الأول في ڤيكتوريا  لمدة عشر سنين. والزواج كان وشك أن ينهار خلال سنة أو سنتين. وكانت مدينة صغيرة. لديك دائرة من الأصدقاء وكلهم يعرفون بعضهم البعض، وبدا لي لو أن الزواج على وشك الانهيار، فمن الصعب أن أظل بنفس البيئة. ظننت أن الرحيل هو الحل الأفضل لنا، بما أنه لن يستطيع الرحيل بسبب المكتبة. وحصلت على فرصة لتدريس الكتابة الابداعية في جامعة يورك خارج تورنتو. ولكنني لم أستمر في تلك الوظيفة. كرهتها، وعلى رغم إفلاسي، تركتها.

المحاورة: لأنك لم تحبين تدريس الأدب؟

مونرو: لا! كان أمراً فظيعاً. كان عام 1973. كانت جامعة يورك إحدى أكثر الجامعات الكندية راديكالية، وعلى الرغم من ذلك كان فصلي كله ذكورا عدا فتاة واحدة لم تتح لها فرصة الحديث. كانوا يفعلون ما يرونه ملائماً للموضة أنذاك، وكان ذلك يتعلق بكونهم مبهمين ومبتذلين؛ وقد بدوا غير متسامحين مع أي شئ آخر. فكان من الجيد أن أتعلم الصراخ والتعبير عن أفكار خاصة بالكتابة لم أكن قد طورتها بعد، ولكنني لم أعرف كيف أتواصل معهم، لم أعرف طريقة لا تحولني لخصم بالنسبة لهم. ربما أستطيع معرفة ذلك الآن. ولكن بدا أن ذلك ليست له أية علاقة بالكتابة – بل أشبه بتدريب جيد لدخول التليفزيون أو ما شابه، الاعتياد على الكليشيهيات. كان من المفترض أن أستطيع تغيير ذلك، ولكنني لم أستطع. كان هنالك تلميذة ولكنها لم تكن في فصلي، أحضرت لي قصة. أتذكر أن عيني امتلأتا بالدموع لأن القصة كانت جيدة للغاية، لأنني لم أر عملاً بهذه الجودة لتلميذة منذ فترة طويلة. سألتني، كيف أستطيع الانضمام إلى فصلك؟ وأخبرتها، لا تفعلي! لا تقتربي من فصلي، فقط أحضري لي كتاباتك. وقد أصبحت كاتبة. الوحيدة التي تمكنت من فعل ذلك.

المحاورة: هل كثرت مدارس الكتابة الإبداعية في كندا كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية؟

مونرو: ربما ليس بنفس القدر. ليس لدينا هنا ما يماثل الوضع في أيوا. ولكن يتم خلق الوظائف عن طريق التدريس في أقسام الكتابة. لفترة شعرت بالأسى لهؤلاء الأشخاص لأن أعمالهم لم تكن تُنشر. وفكرة كونهم يجنون من المال ثلاثة أضعاف ما أراه لم أفهمها.

المحاورة: يبدو أن أغلبية قصصك تدور في أونتاريو. هل تختارين العيش هنا الآن، أم كان ذلك وضعا مؤقتا؟

مونرو: الآن وقد أمضيت بعض الوقت هنا سأختار العيش فيها. هناك منزل والدة جيري، وكان يسكنه للإهتمام بها. وقد عاش كل من والدي وزوجته في هذه المنطقة كذلك؛ شعرنا بأن هنالك فترة محدودة سنخدم فيها هؤلاء الأشخاص المسنين، ومن ثم سنمضي بحياتنا. ومن ثم ولأسباب كثيرة، لم يحدث ذلك؛ فقد اختفوا منذ فترة طويلة، ونحن ما زلنا هنا. أحد أسباب بقائنا هنا هو أن هذه المنطقة مهمة لكلينا. إنه شئ رائع أن يكون هذا الأمر مشترك لدينا. وبفضل جيري، أستطيع تقدير ذلك الأمر بطريقة مختلفة. لم أستطع الارتباط بأي مكان أو دولة أو بحيرة أو مدينة بهذا الشكل. وقد لاحظت ذلك، لذلك لن أرحل أبداً.

المحاورة: كيف التقيتِ بجيري؟

مونرو: عرفت جيري أثناء دراستنا بالجامعة نفسها. كان بسنته الأخيرة، وكنت أنا طالبة في السنة الأولى. كان أحد محاربي الحرب العالمية الثانية المحنكين العائدين، وقد عنى ذلك أن هنالك فارق سبع سنوات بالعمر بيننا. كنت معجبة به عندما كان عمره ثمانية عشرة سنة، ولكنه لم يلحظني على الاطلاق. كان يلحظ أشخاصا آخرين. كانت جامعة صغيرة ولذلك كان من السهل أن تعرف الجميع. وكان هو واحداً من تلك المجموعة الصغيرة – أعتقد أننا كنا نطلق عليهم لفظ بوهيمي، عندما كان الناس لا زالوا يستخدمون ذلك اللفظ؛ كانوا يكتبون الشعر للمجلة الأدبية، وكانوا خطيرين، كانوا يثملون وما شابه. اعتقدت أنه له صلة بالمجلة، وعندما كتبت قصتي الأولى، جزء من خطتي كان أن آخذ المخطوطة إليه. ومن ثم سيدور بيننا حديث، وسيقع في غرامي، وكل شئ سينطلق من تلك المرحلة. أخذت القصة إليه، فأخبرني أن جون كارنيس هو المحرر، وهو في نهاية الرواق. ذلك كان حديثنا الوحيد.

المحاورة: حديثكما الوحيد طوال فترة الجامعة؟

مونرو: نعم، وبعد أن نشرت قصتي، كان هو قد ترك الجامعة. كنت أعمل كنادلة بين السنة الأولى والثانية في الجامعة، وتلقيت رسالة من جيري. كانت رسالة رائعة عن القصة التي نشرتها. كانت أول رسالة من معجب. ولكنها لم تكن عني على الإطلاق، فلم يمدح جمالي، ولم يقل شيئاً من قبيل أنه علينا أن نجتمع سوياً في وقت ما. كانت ببساطة رسالة تقدير أدبي. لذلك لم أقدرها التقدير الكافي الذي كنت سأعطيه لها إن كانت من شخص أخر لأنني تمنيت أن تكون أكثر من ذلك. ولكنها كانت رسالة لطيفة. ثم بعد إنتقالي إلى لندن وحصولي على وظيفة في ويسترن، سمعني بطريقة ما على الراديو. كنت أجري حواراً. ولا بد أنني قلت مكان سكني وأعطيت انطباعاً بأنني لم أعد متزوجة، لأنه جاء لرؤيتي بعدها.

 

المحاورة: حدث هذا بعد بضع وعشرين سنة؟

مونرو: بكل سهولة. بعد أكثر من عشرين سنة، ولم نكن قد رأينا بعضنا البعض خلال تلك الفترة. لم يبدُ كما توقعته على الإطلاق. فقد اتصل بي وأخبرني، أنا جيري فريملن. أنا في كلينتون، وكنت أتساءل إن كان بإمكاننا تناول الغداء مع بعضنا البعض في وقت لاحق. كنت أعرف أن منزله في كلينتون واعتقدت أنه ربما عاد للمنزل لرؤية والديه. أعتقد أني عرفت آنذاك أنه كان يعمل في أوتاوا، فقد سمعت ذلك من أحدهم. وكنت أعتقد أن زوجته وأولاده مازالوا في أوتاوا، وأنه عاد للمنزل لزيارة والديه وفكر في إمكانية تناول الغداء مع صديقة قديمة. كان هذا ما اعتقدته حتى ظهر وعلمت أنه يقطن بكلينتون وأنه لا وجود لزوجة أو أولاد. ذهبنا إلى نادي الكلية وشرب كل منا ثلاثة كؤوس مارتيني، وقت الغداء. أعتقد أننا كنا متوترين. ولكننا اعتدنا على بعضنا البعض بسرعة. أعتقد أن بحلول الظهيرة كنا قد بدأنا الحديث عن العيش معاً. كان الأمر سريعاً للغاية. أعتقد أنني أنهيت أخر فصل تدريسي لي في ويسترن ثم أتيت إلى كلينتون، وانتقلنا للعيش معاً في ذلك المنزل الذي انتقل إليه للإهتمام بأمه.

المحاورة: لم يكن قرار العودة إذاً له علاقة بالكتابة.

مونرو: لم أتخذ أي قرار وأنا أفكر في الكتابة. ولكن في الوقت نفسه لم أفكر يوماً أنني قد أتخلى عنها. أعتقد أن ذلك يرجع لعدم فهمي لمنطق أن هنالك ظروفا ملائمة للكتابة أفضل من أية ظروف أخرى. الشئ الوحيد الذي كان يعيقني عن الكتابة كان العمل – عندما تم اعتباري علنياً ككاتبة وتم إعطائي مكتب لأكتب فيه.

المحاورة: هذا يذكرنا بقصتك القديمة “المكتب”: عن تلك المرأة التي تستأجر مكتباً لتكتب فيه ولكن صاحب المبنى يزعجها كثيراً فتضطر للانتقال.

مونرو: لقد كتبتها عن تجربة واقعية. فقد حصلت على مكتب بالفعل، ولم أستطع أن أكتب أي شئ هناك – بخلاف تلك القصة. لقد أزعجني صاحب المبنى طوال الوقت، ولكن حتى عندما توقف عن إزعاجي لم أتمكن من الكتابة. كان هذا يحدث على الدوام عندما يكون هناك مكان مخصصاً للكتابة، أو مكتب. عندما عملت ككاتبة مقيمة في جامعة كوينزلاند في أستراليا، كان لدي مكتب هناك، في القسم الإنجليزي، مكتب لطيف وأنيق حقاً. لم يسمع أحد عني، لذلك لم يأت أي أحد ليراني. لم يكن هنالك أحد يحاول أن يصبح كاتباً هناك على أية حال. كانت مثل فلوريدا، كانوا يرتدون البيكيني طوال الوقت. لذلك كان لدي متسع من الوقت، وكنت في ذلك المكتب، وكنت فقط أجلس هناك وأفكر. لم أستطع التوصل إلى أي شئ؛ حاولت، ولكن الأمر كان يصيبني بالشلل.

المحاورة: ألم تكن ڤانكوڤر مفيدة كمادة لقصصك؟

مونرو: لقد عشت في الضواحي، أولاً شمالي ڤانكوڤر، ثم غربها. في شمال ڤانكوڤر، كان الرجال جميعاً يذهبون في الصباح ويعودون في الليل، الصباح بأكمله كان خليطاً من ربات البيوت والأطفال. كانت هناك الكثير من الألفة غير الرسمية، وكان من الصعب أن أظل لوحدي. كان هنالك الكثير من التنافس فيما يخص الكنس وغسل الملابس الصوفية، وكنت أصاب بالتوتر الشديد. عندما كان لدي طفلة واحدة، كنت أضعها في عربة الأطفال وأمشي بها لأميال لأتفادى حفلات القهوة. كان ذلك الأمر مُحطماً وأكثر ضيقاً عن الثقافة التي نشأت بها. الكثير من الأشياء كانت ممنوعة – كأخذ أي شئ على محمل الجد. الحياة كانت بالكاد عبارة عن فترات راحة مسموح بها، آراء مسموح بها، وطرق معينة مسموح بها لتكوني امرأة. المنفذ الوحيد، كما أعتقد، كان مغازلة أزواج الأخريات في الحفلات؛ كان ذلك الوقت الوحيد الذي كنت تشعر بصدقه، لأن التواصل الوحيد الذي كان بإمكانك إجراؤه مع الرجال، وتكون فيه بعض الواقعية، كان التواصل الجنسي كما بدا لي.

المحاورة: كيف جاءتك فكرة المكتبة؟

مونرو: أراد جيم ترك إيتونز، أكبر متجر في المدينة. وكنا نتحدث عن رغبته في أن يكون له دور في التجارة بشكل ما، وأخبرته، “أنظر، إن كانت لدينا مكتبة أستطيع المساعدة كذلك”.

اعتقد الجميع بأننا سنفلس، وبالطبع كنا على وشك الإفلاس. كنا فقراء للغاية، لكن آنذاك ابنتي الكبيرتين كانتا في المدرسة، لذلك استطعت أن أعمل طوال الوقت في المتجر، وهذا ما فعلته. تلك كانت أسعد أيام زواجي الأول.

المحاورة: هل كانت تنتابك مشاعر بأن ذلك الزواج لن يدوم؟

مونرو: كنت ابنة فيكتورية – ضغط الزواج كان عظيماً، شعرت بأنه شئ يجب على المرء إزاحته عن الطريق: حسناً، سأقوم بفعل ذلك، ولن يزعجوني بشأنه، وبعدها سأصبح شخصا حقيقيا وحياتي ستبدأ. أعتقد أنني تزوجت لأتمكن من الكتابة، لأستقر ويعود اهتمامي لذلك الشئ المهم. أحياناً أفكر بعد استعادة ذكريات تلك السنوات الأولى، تلك كانت امرأة شابة قاسية القلب. أنا امرأة أكثر اعتيادية الآن عما كنت عليه آنذاك.

المحاورة: ألا يجب على كل فنان شاب، بدرجة ما، أن يكون قاسي القلب؟

مونرو: يكون الأمر أسوأ ان كنت امرأة. أرغب في الاستمرار بالتواصل مع أولادي لأخبرهم، هل أنت متأكد أنك بخير؟ وهذا بالطبع سيغضبهم لأنه يوحي بأنهم عبارة عن سلع تالفة. جزء مني كان غائباً عن الأطفال، والأطفال يستشعرون تلك الأشياء. أنا لم أهملهم، ولكنني لم أكن متواجدة بشكل كامل. عندما كانت أكبر بناتي في سن الثانية، كانت تأتي حيث أكون جالسة أمام الألة الكاتبة، وكنت أبعدها بيد وأكتب باليد الأخرى. أخبرتها بذلك. وكان ذلك سيئاً لأن ذلك جعلها خصماً لأكثر شئ مهم بالنسبة لي. شعرت بأنني فعلت كل شئ بالعودة إلى الوراء: تلك الكاتبة المتحمسة في وقت كان الأطفال فيه صغارا وكانوا بحاجة ماسة لي. والآن، وهم ليسوا بحاجة لي على الإطلاق، أحبهم كثيراً. أتجول في أنحاء المنزل وأفكر، كان هنالك الكثير من وجبات العشاء العائلية.

المحاورة: فزتِ بجائزة الحاكم الأعلى عن كتابك الأول، والتي تعادل تقريباً جائزة بوليتزر في بلادنا. ومن النادر جداً في الولايات المتحدة أن يفوز الكتاب الأول بجائزة كبيرة كهذه. وعندما يحدث ذلك، حياة الكاتب المهنية عادة ما تعاني جراء ذلك.

مونرو: حسناً، لم أكن صغيرة، هذا أولاً. ولكنه كان صعباً. مررت بفترة سنة لم أتمكن من كتابة أي شئ لآنني كنت منغمسة بالتفكير في بدء رواية. لم يكن لدي عبء كتابة كتاب من أحد أكثر الكتب مبيعاً وكان الجميع يتحدثون عنه، كما فعلت أيمي تان بكتابها الأول، على سبيل المثال. مبيعات الكتاب كانت سيئة، وليس هنالك أحد – على الرغم من فوزه بجائزة الحاكم الأعلى – سمع عنه مسبقاً. قد تدخل أي مكتبة وتسأل عنه، ولن تجده متوفراً.

المحاورة: هل يهمك النقد كثيراً؟ هل تشعرين بأنك تعلمتِ شيئاً منه؟هل تأذيتِ بسببه من قبل؟

مونرو: نعم ولا، لا يمكنك تعلم شيئاً حقاَ من النقد، ولكن على الرغم من ذلك من الممكن أن تنجرح. هنالك ذلك الشعور بالإهانة العلنية عندما يتعلق الأمر بنقد سئ. وعلى الرغم من أن الأمر لا يهمك كثيراً، ولكنك تفضل أن يتم التصفيق لك عن أن تتم إهانتك على المسرح.

المحاورة: هل كنتِ قارئة نهمة؟ وهل كان هناك عمل معين ذا تأثير قوي عليك؟

مونرو: القراءة كانت حياتي حقاَ حتى بلغت الثلاثين. كنت أحيا في الكتب. كُتَّاب شمال أميركا كانوا أول من يؤثر في بحق لأنهم أظهروا لي أنه بإمكانك أن تكتب عن المدن الصغيرة، سكان الريف، وتلك الحياة التي أعرفها جيداً. ولكن ما أثار إهتمامي في كُتاب الشمال، دون أن أعي ذلك، أن كل كُتاب الشمال الذين أعجبت بهم حقاً كُنّ نساء. لم أحب فوكنر بذلك القدر حقاً. أحببت إيدورا ويلتي، فلانري أوكونور، كاثرين أن بورتر، كارسون ماكلرس. كان هنالك ذلك الشعور بأن النساء تستطيع الكتابة عن ما هو غريب، ما هو على الهامش.

المحاورة: وهذا ما فعلته باستمرار كذلك.

مونرو: نعم. فقد شعرت بأن تلك منطقتنا، بينما الرواية الكبيرة الشهيرة عن الحياة الحقيقية هي منطقة الرجال. لا أعرف كيف توصلت لذلك الشعور بكوني على الهامش، لم يكن الأمر و كأنه تم دفعي لأكون هناك. ربما لأنني نشأت على الهامش. كنت أعرف بأنه هنالك شيئا بخصوص الكتاب الكبار كان يتم منعه عني، ولكني لم أعرف ما هو. شعرت بإنزعاج شديد عندما قرأت ديفيد هربرت لورينس لأول مرة. كنت أنزعج كثيراً عند قراءة آراء الكُتاب عن الطبيعة الجنسية للأنثى.

المحاورة: هل تستطيعين تحديد ما الذي أزعجك بالضبط؟

مونرو: كان الأمر بمثابة: كيف أستطيع أن أكون كاتبة عندما أكون أنا موضوعا لكُتاب آخرين؟

المحاورة: ما هو رد فعلك تجاه الواقعية السحرية؟

مونرو: أحببت “مائة عام من العزلة”. أحببتها، ولكن لا يمكن تقليدها. يبدو الأمر سهلاً ولكنه ليس كذلك. كان الأمر رائعاً عندما قام النمل بحمل الطفل، عندما ارتفعت العذراء إلى السماء، عندما مات الأب المؤسس، وأمطرت السماء زهوراً. ولكن كان الأمر صعباً بمثل إبهار كتاب ويليم ماكسويل “وداعاً، أراك غداً”، حيث الكلب هو الشخصية. فهو يتعامل مع أمر يبدو تافهاً ويجعل منه شيئاً عظيماً.

المحاورة: بعض قصصك الجديدة يظهر فيها تغير في الإتجاه.

مونرو: منذ خمس سنين، عندما كنت لا أزال أعمل على قصص مجموعة “صديقة طفولتي”، أردت أن أكتب قصة عن عوالم بديلة. قاومت ذلك لأنني شعرت بأنها ستصبح شبيهة بـ “منطقة الشفق”، شئ تافه. كنت خائفة من ذلك. ولكنني كتبت “الانجراف بعيداً”، ولهوت بها قليلاً وكتبت تلك النهاية الغريبة. أعتقد أن الأمر يتعلق بالسن. أن يتغير إدراكك لما هو ممكن، لما حدث بالفعل – ليس فقط تجاه ما يمكن أن يحدث ولكن أيضاً ما قد حدث بالفعل. لدي كل تلك العوالم المفككة في حياتي، وأراهم في حياة الآخرين. تلك كانت أحد المشاكل – لما لم أستطع أن أكتب روايات، لم أستطع يوماً أن أرى أشياء مترابطة بشكل جيد.

المحاورة: ماذا بشأن ثقتك في نفسك؟ هل تغير ذلك بمرور الوقت؟

مونرو: في الكتابة، كانت لدي الكثير من الثقة، مختلطة بخوف من أن تكون تلك الثقة في غير محلها تماماً. أعتقد أن ثقتي ـ بطريقة ما ـ كان مصدرها غبائي. لأنني كنت أعيش خارج أي تيار، لم ألحظ أن النساء ليس بامكانهن أن يصبحوا كاتبات بسهولة مثل الرجال، وكذلك الأمر لهؤلاء من الطبقات الدنيا. إن عرفت أنك تستطيع الكتابة بشكل جيد في مدينة نادراً ما تقابل فيها شخصًا يقرأ، من الواضح أنك ستظن أن هذه هبة نادرة.

المحاورة: أنت بارعة في توجيه العالم الأدبي حيث ترغبين. أكنت تدركين هذا أم كان الأمر مصادفة إلى حد كبير؟

مونرو: بالتأكيد كان الأمر مصادفة لفترة طويلة، وبعد ذلك أصبح اختياري. أعتقد أنني شخصية ودودة ولكنها ليست إجتماعية فعلاً. غالباً بسبب كوني امرأة، ربة منزل، وأما، أرغب بالحفاظ على الكثير من الوقت. يتم ترجمة ذلك إلى خوف. كان من الممكن أن أفقد ثقتي. كان من الممكن أن أسمع أحاديث كثيرة لا أفهمها.

المحاورة: لذلك أنتِ سعيدة لأنك كنتِ خارج التيار؟

مونرو: هذا قد يكون ما أحاول قوله. بخلاف ذلك من المحتمل أنني لم أكن لأنجو. على الأرجح أنني كنت سأفقد ثقتي عندما أكون برفقة أشخاص يفهمون أكثر مني بكثير ما يقومون بفعله. ويتكلمون كثيراً عن ذلك. وثقتهم في أنفسهم قائمة على أساس صلب على عكسي. ولكن، هذا شئ من الصعب التأكد منه في حالة الكُتاب – من يثق في نفسه حقاً؟

المحاورة: هل كان المجتمع الذي نشأت به راضيا عن مهنتك؟

مونرو: كان معروفاً هناك أنني نشرت قصصا هنا وهناك، ولكن كتاباتي لم تكن فخمة. لم تلق رواجاً في مدينتي. الجنس، اللغة السيئة، الغموض. قامت الجريدة المحلية بطبع افتتاحية عني: “استقراء رؤية متوترة للحياة”، و”إلقاء الضوء على شخصية مشوهة”. كان والدي قد توفى عندما فعلوا ذلك. لم يكونوا ليفعلوها إن كان على قيد الحياة، كان الكل يحبونه. كان الجميع يحبه ويحترمه لذلك تكتموا على الأمر قليلاً. ولكن بعد وفاته، اختلفت الأمور.

المحاورة: ولكن، هل كان هو يحب كتاباتك؟

مونرو: نعم كان يحب كتاباتي، وكان فخوراً بها للغاية. كان يقرأ كثيراً، ولكنه كان دوماً محرجاً من القراءة. ثم كتب كتاباً قبل وفاته وقد تم نشره بعد وفاته. كانت رواية عن الأسر الرائدة في المنطقة الجنوبية الغربية، تدور أحداثها في فترة قبل حياته، وتنتهي في وقت كان فيه طفلاً. كانت لديه موهبة حقيقية ككاتب.

المحاورة: هل تستطيعين اقتباس جزء منها؟

مونرو: في أحد الفصول يشرح كيف كانت المدرسة بالنسبة لصبي عاش قبل فترته: “على الحوائط الأخرى كانت خرائط بنية باهتة. أماكن مثيرة للإهتمام مثل منغوليا كانت واضحة، حيث كان السكان المتفرقين يرتدون معاطف من جلد الخراف ويركبون الأحصنة الصغيرة. وسط أفريقيا كان مساحة فارغة لا يميزها شئ سوى تماسيح ذات أفواه مفتوحة وأسود تثبت مخالبها على أشخاص داكني البشرة. في الوسط كان السيد ستانلي يحيي السيد ليفينغستون، وكلاهما يرتدي قبعة قديمة”.

المحاورة: هل لاحظتِ شيئاً من حياتك في روايته؟

مونرو: لا شئ من حياتي، ولكنني لاحظت الكثير من أسلوبي. زاوية الرؤية نفسها، ولكنني لم أتفاجأ فقد كنت أعرف أننا نشترك في هذا الأمر.

المحاورة: هل قرأت والدتك أيا من أعمالك قبل وفاتها؟

مونرو: لم تكن والدتي لتعجب بها. لا أعتقد ذلك – الجنس والكلمات السيئة. إن كانت على ما يرام، كنت سأضطر لخوض عراك كبير وقطع علاقتي بالعائلة لأتمكن من نشر أي شئ.

المحاورة: هل تعتقدين أنك كنتِ ستقومين بذلك؟

مونرو: أعتقد ذلك، نعم، لأنني كما قلت كنت أكثر قسوة آنذاك. الحنان الذي أشعر به تجاه والدتي، لم أشعر به لفترة طويلة. لا أعلم كيف سأشعر إن قامت إحدى بناتي بالكتابة عني. فقد بلغوا السن الذي يمكنهم من كتابة رواية أولى عن الطفولة. لا بد أنها تجربة مريعة، أن تصبح شخصية في رواية طفلك. يكتب الناس بتهور في نقدهم ليجرحوك، مثل كيف أن والدي مربي ثعالب متوعك، أشياء مثل هذه، تعكس الفقر. كاتبة نسوية فسرت “والدي”، في “حيوات الفتيات والنساء”، كتمثيل مباشر لسيرتي الذاتية. وحولتني لذلك الشخص الذي أتي من تلك الخلفية التعيسة، لأن لدي “أبًا عاجزا”. كانت أكاديمية بجامعة كندية، وكنت غاضبة للغاية، وحاولت أن أعرف كيف يمكن أن أقاضيها. كدت أستشيط غضباً. لم أعرف ماذا بإمكاني أن أفعل لأنني فكرت، أن الأمر لا يهمني، لقد حظيت بكل ذلك النجاح، ولكن كل ما حظى به والدي هو أنه كان والدي. لقد مات. هل سيعرفه الناس باعتباره أبا عاجزا فقط بسبب ما فعلته أنا؟ ثم لاحظت أنها تمثل جيلا أصغر من أشخاص نشأوا على كوكب اقتصادي مختلف. يعيشون إلى حد ما في حالة رفاهية – ورعاية طبية. هم لا يعلمون بالدمار الذي قد يحل بعائلة بسبب شئ مثل المرض. لم يمروا بضائقة مالية حقيقية. هم ينظرون إلى عائلة فقيرة ويتصورون أن الأمر بإختيارهم. ألا ترغب في أن تحسن من نفسك هو عجز، غباء أو شئ أخر. نشأت في منزل لم يكن به مرحاض داخلي، وهذا الأمر بالنسبة لهذا الجيل مروع، شئ قذر بحق. وفي الواقع لم يكن قذراً. كان مذهلاً.

المحاورة: لم نسألك عن يومك في الكتابة. كم يوما في الأسبوع تكتبين فعلاً؟

مونرو: أكتب كل صباح، سبعة أيام في الأسبوع. أبدأ بالكتابة الساعة الثامنة وأنتهي تقريباَ الساعة الحادية عشر. ثم أقوم بفعل أشياء مختلفة لبقية اليوم، إلا إذا كنت أعمل على مسودة نهائية أو شئ أرغب بالإستمرار في العمل عليه عندها أعمل طوال اليوم مع أخذ فواصل قصيرة.

المحاورة: هل أنتِ صارمة بخصوص جدولك، حتى وإن كان هناك حفل زفاف أو مع وجود حدث مهم؟

مونرو: أنا أعاني من وسواس لدرجة أنه لدي كمية معينة من الورق الذي يجب علي كتابته. إن عرفت أنه سينبغي على أن أذهب لمكان ما في أحد الأيام، أحاول الانتهاء من تلك الكمية في وقت مبكر. الأمر قهري بشكل مريع. ولكنني لا أتخلف كثيراً، أشعر كما لو أنني قد أفقدها. يتعلق الأمر بكبر السن. يصبح الناس قهريين في أمور كهذه. أنا لدي وسواس كذلك بكم علي أن أمشي يومياً.

المحاورة: كم تمشين؟

مونرو: ثلاثة أميال يومياً، لذلك إذا عرفت أنه على تفويت يوم، أضطر لتعويضه. شاهدت والدي يمر بالشيء نفسه. أنت تحمي نفسك عن طريق التفكير في أنه إن كانت لديك كل هذه الطقوس والعادات الروتينية لا شئ يمكن أن يضرك.

المحاورة: إذاً بعد قضائك لفترة خمس شهور تقريباَ لإكمال قصة، هل تأخذين وقتا مستقطعا بعدها؟

مونرو: أنتقل مباشرة للقصة التالية. لم أكن أفعل هذا عندما كان لدي أطفال ومسئوليات أكثر، ولكن هذه الأيام أشعر بالذعر من فكرة التوقف – كأنني، إن توقفت، سأتوقف للأبد. لدي الكثير من الأفكار المتراكمة. ولكن ما تحتاجه ليست الأفكار فحسب، ولا الموهبة ولا التقنية. هناك ذلك الحماس والإيمان اللذان لا أستطيع العمل بدونهما. كانت هنالك أوقات لم أفقدهما فيها، كانت بمثابة بئر لا تنضب. الآن أشعر بتغير بسيط عندما أفكر كيف سأشعر إن فقدتها، وحتى الآن لا أستطيع تحديد ما هو الذي أخشى فقدانه. أعتقد أن الأمر يتعلق بكون القصة على قيد الحياة أم لا. لا يتعلق الأمر كثيراً بإمكانية نجاح القصة أو لا. ما حدث قديماً من الممكن أن يكون مجرد طريقة لاستنزافك بشكل لم تتوقعه، لأنه يحدث مع أشخاص قد يكون لديهم الكثير من الاهتمام والالتزام بالحياة. إنه يتعلق بالحياة حتى موعد وجبتك التالية. عندما تسافر ترى هذا كثيراً في وجوه متوسطي السن في المطاعم، أشخاص بعمري – في نهاية منتصف العمر وبداية سن الشيخوخة. ترى ذلك، أو تشعر به مثل حلزون، مثل القهقهة المصاحبة لرؤيتك بعض المناظر. إنه ذلك الشعور بأن قدرتك على الاستجابة للأشياء يتم إيقافها بطريقة ما. أشعر الآن بأن هذا ممكن. أشعر به مثل شعوري بإمكانية إصابتك بالتهاب المفاصل، لذلك تتدرب يومياً لئلا يصيبك ذلك. الآن أنا أكثر وعياَ بإمكانية فقدان كل شئ، أنه من الممكن أن تخسر كل ما كان يملأ حياتك في السابق. وربما كل ما عليك فعله هو الاستمرار، والحركة لكي تمنع ذلك من الحدوث. هنالك أجزاء في القصة تفشل فيها. ولكن ليس هذا ما أتحدث عنه. قد تفشل القصة ولكن إيمانك بأهمية كتابة القصة لا يفشل. الخطر هو إمكانية حدوث ذلك. قد يكون هذا هو الوحش المختبئ داخل الخزانة لفترة الشيخوخة – فقدان الإحساس بأن هناك أمورا تستحق القيام بها.

المحاورة: يتساءل المرء على الرغم من ذلك، لأن الفنانين يميلون لأن يواصلوا العمل حتى النهاية.

مونرو: أعتقد أنه من الممكن القيام بذلك. قد ينبغي عليك أن تكون أكثر حذراً. لأن هذا شئ لم أكن لأفكر في إمكانية فقدانه منذ عشرين سنة – الإيمان، الرغبة. أفترض أنه يماثل عدم وقوعك في الحب مجدداً. ولكنك تستطيع تحمله في كل الأحوال لأن الوقوع في الحب لم يكن فعلاً بأهمية شئ كهذا. أعتقد أن هذا السبب الذي يجعلني أستمر. أنا لا أتوقف ولو ليوم واحد. الأمر يشبه نزهتي اليومية على الأقدام. يفقد جسدي تناغمه خلال أسبوع إن لم أواظب على التدرب. يجب أن تكون متيقظاً طوال الوقت. بالطبع لن يهم إن قمت بالتخلي عن الكتابة. ليس التخلي عن الكتابة هو ما أخشاه. أنه التخلي عن ذلك الحماس أو أياَ ذلك ما أشعر به والذي يدفعني للكتابة. وهذا ما أتسائل بشأنه: ما الذي يقوم به الأشخاص عندما يختفي إلزام العمل باستمرار؟ حتى هؤلاء الأشخاص المتقاعدين ممن يأخذون دورات ولديهم هوايات يبحثون عن شئ ليملأوا به ذلك الفراغ، أشعر بالرعب من أن أتحول لأصبح هكذا وتصبح حياتي هكذا. الشئ الوحيد الذي كان يملأ حياتي هو الكتابة. لذلك لم أتعلم أن أحيا حياة بها الكثير من التنوع. الحياة الأخرى الوحيدة التي يمكنني تخيلها هي الحياة الأكاديمية، التي أمجدها.

المحاورة: هاتان حياتان مختلفتان أيضاَ، حياة الهدف الواحد مقابل تلك الحياة المتسلسلة.

مونرو: تذهب للعب الجولف وتستمع بذلك، وبعدها تهتم بالحديقة، ومن ثم تستضيف بعض الأشخاص للعشاء. ولكنني أحياناً ما أفكر ماذا لو توقفت الكتابة؟ ماذا لو أنها فجأة خفتت؟ حسنا، حينها سيكون علي البدء في تعلم شئ ما. لا يمكنك التحول من كتابة الخيال إلى الكتابة الواقعية، لا أعتقد ذلك. الكتابة الواقعية صعبة جداً بحد ذاتها وسيكون بمثابة تعلم شئ جديد تماماً ولكن ربما قد أجرب ذلك. لقد قمت ببعض المحاولات للتخطيط لإصدار كتاب، ذلك الكتاب الذي يكتبه الجميع عن عائلاتهم. ولكن ليس لدي إطار محدد له، لا فكرة مركزية.

المحاورة: ماذا بشأن المقال “العمل من أجل الحياة” الذي تم نشره في “جراند ستريت ريدر”؟ بدا وكأنه مذكرات.

مونرو: نعم، أرغب بالعمل على كتاب من المقالات وضمه إليها.

المحاورة: حسناً، ويليام ماكسويل كتب عن عائلته بنفس الطريقة في “الأسلاف“.

مونرو: نعم، وقد أحببت ذلك الكتاب. سألته عنه. كانت لديه الكثير من المواد ليرسمها. فعل ما ينبغي عليك فعله، وهو ربط تاريخ العائلة بشئ أكبر يحدث في نفس التوقيت – في حالته، كان البعث الديني في أوائل 1800، وهو ما لا أعرف أي شئ عنه. لم أكن أعرف أن أميركا كانت تعتبر دولة بلا إله، وفجأة في مختلف أنحاء البلاد بدأ الناس بالمرور بنوبات. كان ذلك رائعاً. إن كان لديك شئ مثل هذا، فقد حصلت على كتاب. سيتطلب الأمر فترة. أفكر كثيراً بأنني سأقوم بشئ مثل هذا، ثم تأتيني فكرة لقصة أخرى، وغالباً ما تبدو تلك القصة الأخرى أكثر أهمية، على الرغم من أنها مجرد قصة، وليست عملاً كاملاً. قرأت ذلك الحوار في “النيويوركر” مع ويليام تريفور، عندما قال شيئاً مثل؛ “ومن ثم تأتي قصة صغيرة أخرى وتحل إشكالية الحياة “.

ناتاشا ويمر .. جزء من عالم الحروف الكبير

Standard

Natasha_Wimmer

ترجمت ناتاشا ويمر ست كتب لروبرتو بولانو، من ضمنها “2666” (الحائزة على جائزة دائرة نقاد الكتاب القومي للأدب عام 2008) و “المحققين المتوحشين”. وقد ترجمت كذلك ثلاثة كتب لماريو فارغاس لوسا، بجانب أعمال لجابرييل زايد، لورا ريستريبو، رودريجو فريسان، وبيدرو خوان جوتيرز. وقد حصلت على منحة نيا للترجمة (2007)، جائزة بين للترجمة (2008)، وجائزة في الأدب من الأكاديمية الأمريكية للأداب والرسائل (2010). وقد عملت سابقاً كمحررة أدبية في “أمريكان سكولر” وكتبت مراجعات نقدية لمنشورات عديدة من ضمنها “نيويورك تايمز”.

ماذا كانت آخر عقبة تواجهك أثناء ترجمة (جملة، كلمة، مصطلح)؟ وكيف تمكنتِ من حلها؟

هذا سؤال جيد حقاً، فقد اتضح أثناء إجابتي عليه للمرة الأولى، أن الحل الذي توصلت له لمشكلة ما كان خطأ. فها هي محاولة أخرى، من رواية ألفارو إنريجي “الموت المفاجئ”، والتي أعمل عليها حالياً. أنها مجرد مشكلة صغيرة، أحد تلك المشاكل التي قد يواجهها المترجم في كل جملة تقريباً. البابا بيوس الرابع ورئيس محققيه، الكاردينال مونتالتو، يستمتعان بمأدبة وهمية بينما تحترق روما. يقدم بيوس الرابع لمونتالتو هدية، صندق صغير. يقول مونتالتو أن المجوهرات لا تلائمه. يرد بيوس الرابع بجملة تعني حرفياً: “أتعتقد أن في هذه المأدبة الأخيرة لنا وآخر لقاء لنا سأقدم لك صندوق مجوهرات؟” وهي صحيحة (على حسب إعتقادي)، ولكن أزمنة الأفعال غليظة وصعبة المراس بالإنجليزية. الحل (حتى الآن): “أتعتقد أن في لقائنا الأخير هذا، خلال مأدبتنا الأخيرة، سأقدم لك صندوق مجوهرات؟” عندما أسمعها، تبدو هذه الترجمة أكثر إنسيابية ولها نفس المعنى. قد تدور بالعقل بعض الشكوك بينما أقدمها، فعلى الرغم من ذلك: المشهد يدور حول الفرضيات (ومن الصعب شرحها وإختزالها). وربما تلك الأزمنة  الملتفة كانت هامة لتبين ذلك – لذلك فالحل  الذي أقدمه يفقدها بعض الجودة الأصلية.

المترجمون يتمتعون بالكثير من السلطة على النص. كيف تتعاملين مع تلك السلطة؟ هل يمكن للترجمة أن تكون غير أخلاقية؟

لا أعتقد أن كلمة “غير أخلاقية” هى الكلمة التي سأستخدمها، في معظم حالات الترجمة الأدبية، أعتقد أن كلمة “مضللة” أقرب للمعنى. فطالما المترجم يحاول بصدق أن ينقل إحساس النص، أعتقد أن تلك محاولة شريفة. في الواقع، سأتمادى قليلاً وأقول، أن على المترجم أن يعتنق تلك القوة التي يسيطر بها على النص – فالترجمة المترددة غالباً ما تكون ترجمة غير مقنعة، وغير قوية. هذا لا يعني بأنني أقول أنني لا أهتم بالضرر الذي أسببه للنص. أقلق بشأن ذلك طوال الوقت، خاصة عندما أحاول الحفاظ على تميز أسلوب الكاتب. من المحتمل أن أبالغ بالترجمة. ولكنني أعتقد بأن عواقب التقليل من الترجمة أسوأ.

هناك تعبير إيطالي مشهور يعتمد على اللعب على كلمات “خائن” و “مترجم”. بينما تكتب الشاعرة والمترجمة روزماري والدروب، “الترجمة لا تعني صب الخمر من زجاجة لأخرى. المادة وشكلها لا يمكن فصلهما بسهولة، الترجمة أشبه بإقتلاع روح من جسدها وإستدراجها لجسد آخر. هي تعني القتل.”. لما يحفز مصطلح الترجمة تشبيهات عنيفة بهذا الشكل؟ إلى أي مدى تشعرين بأن ترجمتك الخاصة فعل تدميري؟

أستطيع التعرف على الرواية الأشبه بالزومبي التي قد تنتج عن تلك الترجمة التي يقصدونها، كتاب ترجمته سطحية للغاية لدرجة تجعل عينا القارئ تتوهان في الصفحة. ولكنني أعتقد أن والدروب لم تتحلى بالثقة الكافية في المادة. فالتفاصيل الأساسية للقصة – المكان، الأحداث، الشخصيات، وجهات النظر – لها روح خاصة بها، روح من الصعب قتلها بالترجمة.

كلمة “مخلص” عادة ما تظهر في نقاشات تتعلق بالترجمة. لمن أو لأي شئ تكون الترجمة مخلصة؟ وهل الترجمة المخلصة هي ترجمة جيدة؟ وهل الترجمة الجيدة هي ترجمة مخلصة؟

تم إجباري مؤخراً على أخذ هذا السؤال في إعتباري بشكل جدي. فلأول مرة، أنا أعمل على ترجمة رواية أعرف مقدماً بأن المؤلف سيقرأها بحرص، وإنجليزيته تكاد تكون ممتازة. وهذا جعلني واعية بشدة للكتابة (أو عدمها) لجمهور معين. هل أنا أكتب للمؤلف، أم أنني أكتب للقارئ العادي المتابع للأعمال الأدبية المترجمة إلى الإنجليزية؟ إن كان الإختيار الأول، فيجب علي الترجمة بحرص أكثر؛ وإن كانت الثانية، فعلي أن أطلق عناني وأن أكون أكثر وضوحاً. سأحاول أن أقول بأن كلا النسختين “مخلصتين” بطريقتهما، ولكن كلاهما لجمهور مختلف. ومسئوليتي الكبرى، كما أعتقد، هي تجاه جمهور النص الأكبر. قد يتفق معي الكثير من الكُتاب، بورخيس وإمبرتو إيكو على سبيل المثال، فقد شجع كلاهما مترجميهما على الإستفادة من مصادر اللغة الإنجليزية بشكل كامل في ترجمة أعمالهم. ولكن يجب علي الأخذ في الإعتبار رد فعل قارئ قد يكون غيور على كل كلمة وكل جملة.

متى تشعرين بأن الترجمة اكتملت؟

عندما أجد نفسي أمر على نفس الكلمات والجمل، وأقوم بتعديلات لأعكسها بعدها مباشرة. بالطبع، بعد ستة أشهر، عندما يكون قد فات الآوان على المراجعة ويصبح بإمكاني أن أقرأ بعين أكثر دقة، أجد أشياء كثيرة بحاجة للتعديل.

ما أنواع الكتب الأكثر ترجمة في اللغة التي تترجمين منها للإنجليزية غالباً؟

الرواية – وخاصة الأدب المعاصر الذي يسعى لتبني اللغة الحوارية الدولية. وأعتقد أن هذا أمر جيد، على الرغم أنني أحياناً أتمنى لو أن هناك المزيد من الترجمات للأعمال غير الروائية وكتب الأطفال، فقد فوجئت مؤخراً بإيجاد كتاب “مانوليتو جافوتاس” لإلفيرا ليندو واشتريته لابنتي.

لما تترجمين؟

للشعور بتلك اللذة الخاصة؛ للسعادة الناتجة عن قدرتي على جعل جملة أو فقرة تغني بلغة جديدة؛ من أجل البحث الذي أقوم به؛ ومن أجل الشعور بالرضا لكوني جزء من عالم الحروف الكبير.

جون شتاينبك: توقف عن التفكير بأنك لن تنتهي أبداً

Standard

Steinbeck_Seated_1500

قام جون شتاينبك في حواره مع مجلة “ذا باريس ريفيو” بالإدلاء ببعض النصائح للكُتاب:

–  توقف عن التفكير بأنك لن تنتهي أبداً. فلتنس تلك الأربعمائة صفحة ولتكتب صفحة واحدة يومياً، سيساعدك ذلك. وعندما تنتهي منها، ستفاجئ. 

– فلتكتب بحرية وبأسرع ما يمكن ولترمي كل ما بداخلك على الورقة. لا تصحح أو تعيد كتابة ما كتبت حتى تنتهي منه تماماً. اعادة الكتابة هي عملية عادة ما يتم اعتبارها عذراً لكي لا تستمر. وهي تتدخل كذلك في الإيقاع والتدفق الذي قد يتحقق فقط في حالة ترتبط باللاوعي أثناء الكتابة.

–  تجاهل الجمهور العام. مبدأياً، ذلك الجمهور عديم الاسم، مجهول الهوية سيخيفك حتى الموت وثانياً، على عكس المسرح، فهو غير موجود بالأساس. في الكتابة، جمهورك هو قارئ واحد. وقد إكتشفت أن مما قد يساعدك في ذلك هو إختيار شخص واحد – قد يكون شخص حقيقي تعرفه أو شخص خيالي لتكتب له.

–  إن أنهكك مشهد أو مقطع ما ولازلت متمسكاً بكتابته – فلتتعداه وتستمر بالكتابة. عندما تنتهي من العمل بأكمله تستطيع العودة إليه وربما أنذاك قد تعرف بأن سبب كونه مشكلة هو عدم انتماؤه لذلك المكان في الأساس.

–  احترس من أن يصبح مشهد ما عزيزاً عليك، على حساب البقية. ستجد أنه قد يصبح خارجاً عن النص. 

–  إن كنت تستخدم الحوار – فلتردده بصوت عالٍ أثناء كتابته. حينها فقط ستعرف صوت الخطاب.

ولكن بعيداً عن نصائحه تلك، قام بإلقاء خطاب شاعري منذ 12 عاماً، بعد فوزه بجائزة نوبل للأداب مباشرة، وتضمن خطابه ذاك نصيحة مهمة للكُتاب كذلك، قد تكون أكثر أهمية من نصائحه المكتوبة أعلاه:

“إن كان هنالك سحر في كتابة القصص، وأنا متأكد من وجوده، فلم يستطع أحدهم يوماً من أن يحوله لوصفة يتم تناقلها من شخص لأخر.ذلك لأنه يبدو أن المعادلة بأكملها تكمن في رغبة الكاتب المُلحة في نقل شئ ما يراه هاماً للقارئ. إن كان لدى الكاتب ذلك الإلحاح، قد يكون لديه أحياناً، ولكن يستحيل أن يكون لديه دائماً، فعليه إيجاد الطريقة لإيصاله. عليك أن تلمس الميزة التي تجعل من القصة الجيدة جيدة أو الأخطاء التي تجعل منها قصة سيئة. فالقصة السيئة ما هي إلا قصة غير مؤثرة.”